حديث «العرنيين» صحيح سندا. بل أكثر من هذا كتب الشيخ محمد أبوزهرة فى كتابه «الإمام أبوحنيفة» أنه لا مطعن عليه من جهة السند. فقد رواه البخارى، وقال الهمام إنه متفق عليه ولم يذكر الناقدون للرواة نقدا لرجاله. ومع هذا السند الصحيح فإن الشيخ أبوزهرة لم يتردد فى نقده من جهة المتن، ولو كانت الكتب الستة قد روته، فإن الخبر خبر آحاد، وإذا تعارض خبر الآحاد مع مبادئ الإسلام المقررة فإنه لا يُؤخذ به، ولا تقبل روايته ويكون ذلك طعنا فى نسبته.
وخبر العُرنيين لمن لا يعلم أن قوما من عُرينة أتوا المدينة فاصفرت ألوانهم وانتفخت بطونهم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة، ويشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا وصحّوا. ثم ارتدوا ومالوا إلى الرعاة فقتلوهم واستاقوا الإبل. فبعث رسول الله فى أثرهم قوما فأُخذوا فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم فى شدة الحر حتى ماتوا. قال الراوى: حتى رأيت بعضهم يكدم الأرض بفِيه من شدة العطش.
■ ■ ■
الجناة فى هذا الخبر يستحقون القتل قطعا، فقد غدروا وقتلوا الرعاة وسرقوا وأفسدوا فى الأرض. لكن ماذا عن سمل الأعين وقتلهم عطشا؟
يؤكد الشيخ أبوزهرة - رغم صحة السند- فإن كل ما اشتمل عليه هذا الخبر غير صالح للأخذ به فى الشريعة الإسلامية الخالدة.
فأولا: إباحة شرب أبوال الإبل وقد قال الرسول: «استنزهوا من البول. فإن عامّة عذاب القبر منه».
ثانيا: لئن استسيغ قطع الأيدى والأرجل لأنهم سرقوا وقتلوا وبغوا وارتدوا بعد إسلامهم، فليس فى الإسلام التمثيل بهم بسمل أعينهم، فإن الحديث الصحيح «وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة» ينافى هذا. بالإضافة إلى ما عرف من مبادئ الإسلام العامة، كما أن الحديث الصحيح «إياكم والمثلة ولو بالكلب» ينافى ذلك.
ثالثا: ليس بمستساغ فى الإسلام تركهم يموتون عطشا، للإجماع أن من وُجب عليه القتل فاستقى لا يُمنع.
رابعا: يقول الشيخ أبوزهرة أن بعض العلماء أجاب عن المُثلة أن حادثة العرنيين كانت قبل تحريمها، أما عن تعطيشهم فقد قالوا إن النبى لم يأمر به ولم ينهَ عنه. ويعتبر الشيخ أبوزهرة ذلك الرد ضعيفا جدا، لأن النبى اطلع على ذلك وسكوته فيه ثبوت الحكم. فهذا الجواب عنده غير مستقيم ومُضعف للخبر ولا تُقبل روايته ويكون طعنا فى نسبته. انتهى كلام الشيخ محمد أبوزهرة.
■ ■ ■
قلت فى المقال السابق إن شروط صحة الأحاديث خمسة: ثلاثة من جهة السند (راوٍ تقى- واعٍ- واطراد صفتى التقوى والوعى فى سلسلة الرواة) بالإضافة إلى شرطى المتن (عدم مخالفة ما هو أوثق كالقرآن والسنة العملية- وغياب العلة القادحة التى يبصرها المحققون).
الإمام اعترف بصحة الشروط الثلاثة للسند، ولكن من جهة المتن لم يجد الشرطين قد أُحسن تطبيقهما. وكل ما فعله الإمام أبوزهرة أنه طبق شرطى المتن المقررين سلفا عند علماء الأحاديث.
لماذا فعل الشيخ ذلك؟ ألم يكن يسعه ما فعله علماء المسلمين من التبرير لإثبات صحة الخبر؟ ألم يكن أسهل عليه أن يسير مع السائرين ويقول بقولهم؟
الأمر ببساطة أنه عالم وشجاع وصادق مع نفسه. وأن تنزيه مقام الرسول عنده أهم من تخطئة الرواة وعلماء الحديث وذلك هو مربط الفرس.