مثل مذاق التفاح الأخضر، تجمع بين الحلاوة و«المزازة».. مزيج بين بين، وهو مذاق يعجبنى في كل الأطعمة وفى الحياة أيضا، وبين الفصول يذكرنى هذا المذاق بفصل الخريف، وهو الفصل الأروع في مصر، والأكثر متعة بالنسبة لى شخصيا، أعشق الخريف، وأشعر بأمل جديد حين تتخلص الأشجار من أوراقها الجافة التي تدل على موت مؤقت، وحياة مقبلة، ويروقنى صوت تلك الأوراق وهى تتكسر تحت خطواتى، لأنها تشعرنى بقوة الإنسان حتى وهو في نفس هشاشة هذه الأوراق، وفى السنوات الأخيرة اكتسب الخريف عندى ثوبا إنسانيا أعرفه جيدا من خلال سيدة تعدت الثمانين، لم تكن في شبابها تعرف من الحياة أكثر من الكيلومتر المربع الذي تعيش فيه، وبيوت الأقارب المبعثرة على مقربة من منزلها، لم تركب أي وسيلة مواصلات بمفردها أو تسافر وحدها أبدا، دائما تخرج في رفقة زوجها أو ابنها أو ضمن وفد من العائلة والأقارب، وفى الستين من عمرها توفى الزوج، وخشى عليها الجميع، وتوقعوا أنها ستذبل وتموت مع الأيام المقبلة، فهى عاشت ماضياً مع رفيق العمر وليس لها مستقبل بدونه، وتحول الخوف إلى هلع طوال عام كامل من الحزن الموجع والحداد المستمر.
وبعد عام الأحزان بدأت سيدة الخريف حياة جديدة تماماً، وقد تعدت الستين، فالتحقت بجمعية للرواد أو كبار السن، سافرت معهم إلى كل محافظات مصر.. مصر التي لم تعرفها من قبل.. حرصت على زيارة كل المزارات الدينية والأثرية في بلدنا الجميلة، وسافرت للعمرة، وحرصت عليها كطقس سنوى مع صديقاتها الجدد، الحياة لم تعد جدران المنزل وحكايات الأبناء ومتاعبهم وهمومهم مع الأحفاد، لكن معايشة حقيقية وخبرات جديدة، وألبومات من الصور في أسوان والأقصر والغردقة وشرم الشيخ ورأس البر، وكل أنحاء مصر.
رفضت سيدة الخريف عروض الأبناء المتكررة بأن تعيش معهم، لم ترض بأن تتحول إلى عالة أو جليسة للأبناء، أو هدفا للشفقة، فهى «سيدة نفسها» منذ نشأت في بيت والدها العمدة، ملكت ماضيها وحاضرها، أتذكر اللحظة التي احتضنتها بخوف عندما ابتلاها الله بوفاة ابنها الأقرب للقلب والعين، يومها رأيتها في هشاشة ورق الخريف وفى قوة جذور شجرة الجميز، حملت نعش ابنها وسارت في جنازته، بكته بكاء الأم الثكلى، أشفقت عليها والدموع تنهمر من عينيها، كان وجهها مختفيا دوما تحت كفيها، وكأنها تسند بيديها ذلك الرأس الحزين الذي يوشك على السقوط، كنت أسمعها تدعو «يارب ماتحكم على أم بحكمك على.. يارب ماتورى أم اللى شفته»، شعرت لحظتها أنها دفنت جزءا منها حين وارت ابنها الحبيب والمفضل التراب.. الدموع لاتنضب، والذكرى ماء وزاد، والحياة أصبحت ثقيلة وبطيئة، اختفت جولات السفر، وتوقفت رحلات العمرة..
صارت الوحدة هي كل شىء، وكأن العالم في الخارج عدم لا وجود له، لم يعد هناك برنامج يومى سوى تلاوة القرآن، ومشاهدة القنوات الدينية، وتأمل صورة الحبيب الغائب الحاضر. حينذاك تصورت أن سيدة الخريف لن تستمر على قيد الحياة، ستذبل مثل ورقة شجر في الخريف وتسقط هشة تحت أقدام النسيان، لكنها صنعت ربيعها بيديها من جديد، ووقفت على قدميها من جديد وهى تشرف بنفسها على تفاصيل زواج الحفيد الذي يعول كثيراً على جدته، نهضت الجدة في مواجهة خريف الأحزان وعبء السنوات الثمانين، وصنعت الفرحة، ومع أول مولود لحفيدها عادت لحياتها طقوس الاحتفالات، فالحياة تمتد والآمال تتجدد وصرخات الأطفال عادت تملأ البيت الساكن، والجدة تتمسك أكثر بمفردات عالمها، التليفزيون في حجرة النوم، وأمامه «الكنبة» التي تشاهد عليها برامجها المفضلة في قناة الأسرة، والمروحة التي تفضلها على التكييف، ورعاية القطط التي تسمح لها بالولادة داخل بوفيه خاص في البيت، وتطعمها بحنان ..وابتسامة عذبة مطمئنة تؤكد للجميع أن خريف العمر لم يصبح غمة، فقط «مزازة» لاتصل لطعم المرارة، مزازة كمذاق التفاح الأخضر.. تحية لك ياسيدتى في خريف العمر.. تحية لك يا أمى.. ياست الحبايب.. صباحك معطر وصباح كل أم على أرض مصر الطيبة.
ektebly@hotmail.com