فى إطار النقاش بخصوص العاصمة الإدارية، أعيد نشر مقال كتبته منذ ما يقترب من عقد من الزمن الآن فى ١٧/ ٢/ ٢٠٠٧، مع الاختصار والتعديل.. لقد جرت مياه كثيرة فى النهر، لكنى أعتقد أن النقاط الأساسية مازالت قائمة، خاصة فيما يتعلق بالتداعيات المحتملة الاجتماعية للمشروع وجدواه فى تحسين ظروف التكدس والتلوث على أرص الواقع. لست بالضرورة ضد الفكرة أو أن تنفذ على أساس استثمارى، لكنى أعتقد أنه إذا تم فعلا المضى قدما فيجب الحذر لأسباب أتمنى أن تكون واضحة فيما يلى:
فى كل مرة ذهبنا فيها للإسكندرية كان يتوقف والدى فى بداية الطريق الصحراوى، الضيق الـ«رايح جاى»، عند مديرية التحرير ليقتنى أشياء مثل الجبن والزيتون، لذلك كنت أتصور أن المشروع يقتصر على بضعة دكاكين لبيع البقالة، حتى اصطحبنى الوالد، الذى كان ينظر إلى هذه الزيارات كواجب قومى وأيديولوجى، إلى مركز المديرية ذات مرة فى جولة ميدانية شرح لى فيها أهميتها بالنسبة له.. فكانت المديرية تمثل بداية انطلاقة تاريخية للفلاح المصرى، بعيدا عن تكدس وادى النيل، وبديلا للهجرة المذلة للمدينة، حياة جديدة ينعم فيها بالكرامة والمساواة مع العمال الاجتماعيين وخبراء الزراعة والتخطيط الذين كانوا يشاركونه القرية.
توقفت الزيارات فى نهاية السبعينيات، لم أكن أعرف السبب حتى قرأت مقالاً لأمنية الشقرى، الأستاذ المساعد بجامعة كاليفورنيا، المنشور تحت عنوان «القاهرة عاصمة الثورة الاشتراكية»، ضمن مجموعة من الأبحاث عن القاهرة يحتويها كتاب «كايرو كوزموبوليتان» الذى أصدرته مطبعة الجامعة الأمريكية بالقاهرة، فاكتشفت أنه بدءا من عام ١٩٦٧ أخذت الحكومة فى بيع أراضى المشروع الناجح اجتماعياً والخاسر اقتصادياً.
جاء ذلك التحول فى إطار نموذج جديد تبنته «مصر الانفتاح»، فبدلاً من التخطيط الدقيق والمركز لكل مراحل مشاريع التمدد الأفقى تم الأخذ بنمط أكثر مرونة مبنى على إنشاء «بؤر جاذبة» للاستثمارات، وهو النموذج المؤسس على الاستثمارات الخاصة والذى حقق نجاحا أكبر فى جذب الناس خارج وسط القاهرة، لكنه لا يخلو من الأخطار.
نتيجة لاستمرار هذا المد اللامركزى، صارت القاهرة تشبه فى بعض جوانبها مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، ببلداتها المترامية المرتبطة بنظام الـ«فرى وايز»، وأهم أمثلة لها هنا هو محور ٢٦يوليو.. لهذا النموذج مزاياه، لكنه له عيوبه أيضا، فظروف السوق تحتم ألا تقترن دائما أماكن العمل بأماكن السكن أو تأدية المصالح، فيضطر الناس للسفر يوميا لمدة ساعات، مما يؤدى إلى زيادة كبيرة فى نسبة التلوث بدلاً من خفضها، ولاستيعاب ذلك التدفق يتحتم شق طرق إضافية، تمر بوسط المدينة فتدمر بعض أحيائها، وتفصل البعض الآخر عن بعضه، ليزداد معدل الهجرة منها وتتحول بعض أحيائها ذات الطراز المعمارى التاريخى المميز إلى بؤر للجريمة وعدم الاستقرار الاجتماعى.. أدى ذلك فى لوس أنجلوس مثلا لأعمال الشغب المتكررة التى نتج عنها خراب وسط المدينة التاريخى.. وكذلك تم تدمير الكثير من مدن الولايات المتحدة، وفى حالة مصر يجب إضافة عنصر سوء تخطيط ومرافق العالم الثالث.
لقد سوقت بعض المنتجعات السكنية بالمدن الجديدة مثل «دريم لاند» و«يوتوبيا» كبديل عصرى لإحياء وسط القاهرة القديمة، كذلك يتم توريد الاستقطاب التقليدى بين «الأحياء الشعبية» والأخرى الـ«شيك» إلى المدن الجديدة ليظهر بطريقة أكثر فجاجة، فعلى عكس الأحياء المرموقة القديمة المفتوحة للكل من حيث المبدأ، فإن بعض المجتمعات الجديدة مغلقة محاطة بجدران عازلة، وللأسف فإنها ربما أحيانا تكون المكان الوحيد الذى يمكن أن يعيش فيه بطريقة آدمية.
بالإضافة، فإذا كان من ضمن مقومات نجاح نظام السوق وجود نسبة معينة من العشوائية الناتجة عن اجتهاد الأفراد والمؤسسات وتنافسهم، فإن العشوائية المطلقة المجسدة فى وضع بعض ضواحى القاهرة، لا يمكن اعتبارها إلا من ضمن العوامل المساعدة لعدم الاستقرار الاجتماعى والتطرف السياسى.
فمن أهم أسباب زعزعة استقرار عالم ما قبل ١٩٥٢ كان الاستياء الشديد من قبل معظم سكان المدن المصرية، بالذات الذين هاجروا إليها من الريف، تجاه الفوارق الاجتماعية الهائلة، المجسدة فى التباين والفصل الاجتماعى بين مختلف أحيائها، رغم الازدهار النسبى فى حالة البلاد الاقتصادية عامة. لذلك، إذا كنا لا نريد ألا تلعب ظاهرة الهجرة المعاكسة إلى الضواحى التى تحدث الآن نفس هذا الدور السلبى، يجب إعطاء أولوية لاحتواء العشوائيات داخل نظام التخطيط المدنى، وأيضا الحد من المشاريع المشجعة للفصل الاجتماعى فى المجتمعات الجديدة، والتأكد ألا يأتى تطورها على حساب الاعتناء بوسط المدينة.
فليس هناك بالضرورة ضمانات ألا تأتى تطلعات اقتصاديات السوق المثالية الحالمة بنتائج أكثر فاعلية من مثيلتها الاشتراكية، دون مراعاة ظروف الواقع والتعلم من التجربة.. تجربتنا وتجربة الآخر.