ذكرى البابا شنودة.. والمتطرفون على الناحيتين

أحمد الجمال الثلاثاء 17-03-2015 21:46

أرجئ الكتابة عن عيّنة من الرأسمالية المصرية سبق أن كتبتُ عنها، لكن وقائع المؤتمر الاقتصادى، وما أطلقه بعض رموز تلك العينة من تصريحات، يفتح الموضوع مجددًا، وسبب الإرجاء هو اهتمامى بذكرى مثلث الرحمات قداسة البابا شنودة الثالث، الذى تحل ذكرى انتقاله للراحة الأبدية هذه الأيام، واهتمامى بقضية التطرف التى تحتدم بعض أبعادها بعيدًا نسبيًا بالمكان عن سيناء وعن حدودنا الغربية، وإن كانت القضية لا تتجزأ بسبب الجغرافيا!

منذ سنين عديدة، سهّل لى الزميل الصديق طلعت جاد الله مهمة إجراء حوار مع قداسة البابا شنودة، وتحدد الموعد وذهبت إلى الكاتدرائية بصحبة زميلى المصور الصحفى آنذاك محمد أبوالعينين، وهو الآن محرر صحفى متميز بالأهرام، ودخلنا قاعة للاستقبال والانتظار.. ولفت نظرى وجود سيدة فى المكان، هى على ما أتذكر الأستاذة نبيلة ميخائيل التى ترتب المواعيد وتأذن بالتحرك.. ثم مجموعة من الإكليروس بزيهم الأسود المميز، وكانوا جلوسًا بالقرب من نافذة واضح أنها «بحرى» لأن نسمات الهواء العليل كانت «تغربل» ناعمة لطيفة، وكان أثرها الواضح أن الآباء غفوا فى تعسيلة نوم هادئة وهم جلوس.. واستبدّ القلق بزميلى الذى كانت هذه هى أول زيارة له لكنيسة! وبطريقتى- شبه الصاخبة- أردت أن أُبدّد قلقه وسألته من فورى: أنت متوضئ يا أستاذ؟! وفتح فمه عاجزًا عن الرد، ثم همس وكأنّ روحه تطلع: هو حضرتك ناوى تت.. تت..!! وظل يهمس بالتاء إلى أن فوجئ بى أزيح الكرسى من تحتى وأقترب من إحدى الطاولات لتكون أمامى، وبسرعة رفعت يدى إلى جانبى رأسى.. والله أكبر!

وانتبه الآباء القساوسة من غفوتهم.. وهرول زميلى باتجاه الباب ليجد الأستاذة فى مواجهته مشدودة لا تنطق.. ولأن صلاة العصر ليست جهرية واصلت الوقوف والركوع والسجود، إلى أن سلّمت.. وفور التسليمة الثانية وجدته يقول لى: كانت حبكت يعنى.. لقد أبلغونى أن البابا فى الانتظار!

ولم أرد، وتم توجيهنا للقاء، وما إن أطللت وأصبحت بالقرب من سيدنا إذا به يضحك ويقول لى: حرمًا! وجلسنا: قداسته وطلعت والعبد لله.. وبعد قليل انسحب طلعت وبقيت مع قداسته نتحاور لثلاث ساعات تقريبًا.. ولم أفلت موضوعًا عنّ على ذهنى إلا وخضت فيه.. وسألته فى بداية الكلام: سيدنا.. ما هذه الرسوم التى على ملابس قداستك؟ فرد مبتسمًا: دول الملايكة بأجنحتهم!

تكلمنا فى كل شىء، ونُشر جزء طويل من الحوار فى «روزاليوسف» إبّان رئاسة الأستاذ عادل حمودة لتحريرها، وكنت آنذاك مرفوتًا من الكتابة فى «العربي»، جريدة الحزب الناصرى، بسبب كتابتى مقالًا بالأهرام أؤيد فيه الأستاذ إبراهيم نافع لموقع نقيب الصحفيين فى مواجهة الأستاذ جلال عارف، واعتبر ذلك فى نظر السادة الأشاوس تجديفًا وكفرًا يكون عقابه هو القطع والحرمان من نعيم جريدة «العربى» والحزب الناصرى.. وأذكر أن عمنا الساخر الكبير محمود السعدنى دخل على الخط وكتب مقالًا بالصفحة الأخيرة من «المصور» عن حكايتى مع الحزب الناصرى وجريدته وشبّه المسألة بما يحدث للعمالة المصرية مع الكفيل الخليجى! المهم أن سيدنا كان يطلب منى أن أوقف عمل جهاز التسجيل عند الإجابة عن بعض أسئلتى التى أذكر منها سؤالين، كان أولهما عن عدم سماحه بمناقشة مسألة الطلاق بين الأزواج المسيحيين، وكان الثانى عن سر تعقّد علاقة الدكتور ميلاد حنا به، وفى المرتين كان رده واضحًا، ولأن فيه ما رآه هو مساسًا بالبعض رفض بكياسة جميلة: أن الرد ليس للنشر. ولا أدرى هل ألتزم حتى الآن بعدم النشر أم أننى أصبحت فى حِلّ بعد تنيّحه؟! كان البابا شنودة متوهج الذكاء حاضر البديهة و«ابن نكتة» لا تفوته القفشة، وشاعرًا ودارسًا للتاريخ ويحفظ الكتاب المقدس بعهديه عن ظهر قلب، ولفت نظرى أنه كان أثناء جلوسنا معًا يشير بيده لأى أسقف يريد الحديث معه لكى ينتظر إلا شخصًا واحدًا، فإنه كان يرحب به من فوره ويقف نصف وقفة قائلًا: اتفضل يا أبونا بيشوى! كان قداسته- نيّح الله روحه- إنسانًا متميزًا، ومازلت أعتز بشهادته التى قال لى فيها إنه والكنيسة يقدران ما أكتب ويعتزان بموقفى الوطنى.

أما مسألة التطرف، فقد لفت نظرى أن إعلامنا المصرى لم يهتم كثيرًا بالبيان الذى أصدرته الكنيسة المصرية بشأن دير الأنبا مكاريوس بوادى الريان.

وفى البيان إدانة واضحة واستنكار لا لبس فيه من البابا تواضروس والكنيسة من تصرفات بعض الرهبان الذين تجاوزوا القانون وتحدوا سلطة الدولة، وقد تبرأت الكنيسة منهم.. وهنا أقتبس بعض نصوص البيان الذى صدر بعد اجتماع قداسة البابا تواضروس الثانى واللجنة البابوية المسؤولة عن المشكلة: «وادى الريان منطقة محمية طبيعية سكنها قديمًا عدد من النساك والمتوحدين، وحديثًا حاول البعض إحياء الحياة الرهبانية فيها على أرض لم يتملكوها قانونيًا، ولم يصدر بها اعتراف كنسى حتى الآن، وعندما قررت الدولة إنشاء طريق ضمن خطة مشروعات التنمية القومية فى مصر، اعترض بعض الساكنين هناك، وبصورة غير لائقة، أمام المهندسين ومعداتهم...»، «ولذا تعلن الكنيسة أن هذا المكان ليس ديرًا كنسيًا معترفًا به حتى الآن، كما تُخلِى مسؤوليتها، وتعلن أن للدولة الحق القانونى فى التصرف فى هذا الموضوع، مع مراعاة الحفاظ على الطبيعة الأثرية والمقدسات والمغائر والحياة البرية فى هذه المنطقة.. وإذ تدين الكنيسة بشدة كل هذه التجاوزات ترجو من شعبها عدم التجاوب مع المغالطات التى يتداولها البعض بصورة خاطئة... كما نستنكر هذه التصرفات التى صدرت بغير حق ولا تمثل منهجًا رهبانيًا، والذى يقوم أساسًا على الطاعة والفقر الاختيارى، وتعلن الكنيسة أنها تتبرأ من كل من...»، ثم يذكر البيان ستة أشخاص بأسمائهم الشخصية وأسمائهم التى اتخذوها لأنفسهم بعد أن ادّعوا دخول الرهبنة.

وهذا موقف يُحسب للكنيسة وللبابا ويجب الإشادة به.. أما الوجه الآخر للتطرف، فهو ما يحدث فى قرية الجلاء مركز سمالوط، التى يعيش فيها نحو 1400 مواطن قبطى، يصلون فى كنيسة باسم السيدة العذراء، بُنِيَت منذ ثلاثين عامًا بالطوب اللبن على مساحة 60 مترًا مربعًا، ثم تداعت مبانيها وضاقت مساحتها عن استيعاب المؤمنين، وتقدم الناس بطلب لبناء كنيسة جديدة، على أرض مشتراة، وحصلوا على تصريح رسمى منذ سبع سنوات.. وهنا عينك ما تشوف إلا الضلمة! لأنه بصرف النظر عن التفاصيل المزرية المهينة، التى فعلها الأستاذ يوسف سيدهم فى مقاله عن الأمور المسكوت عنها بجريدة «وطنى» العدد الصادر يوم 15 مارس 2015، رغم أنها تفاصيل شديدة الأهمية إلا أن ما يجب أن نتوقف عنده ولا نغادر إلا بعد أن تفرض الأمة إرادتها بالدستور والقانون والعُرف الإنسانى الحضارى والثقافى، هو تدخل من يُسمون متطرفى المسلمين فى القرية وقيامهم بتحديد شروط بناء الكنيسة الجديدة، ومنها شرط منع بناء قباب ومنارة وصليب!

وأن تقام من طابق واحد، يقوم أولئك المتطرفون بمعاينة أساساته، ليتأكدوا من أنها لن تحمل سوى طابق واحد، ولا يجوز للمسيحيين تجديد الكنيسة أو ترميمها إذا انهارت أو تصدّعت!

ومن عندى أقول إنه كان متبقيًا استكمال الشروط بمنع المسيحيين من ارتداء الصلبان، وأن يلبسوا فردة حذاء واحدة، وأن يربطوا وسطهم بأحزمة مدلاة، ويتم تحديد لون ملابسهم وأغطية رؤوسهم، ولا يجوز ركوبهم الخيل، بل إذا ركبوا الحمير ينزلون عنها عند المرور على أى مسلم! وهلم جرّا.

يا سيادة رئيس الجمهورية، ويا سيادة رئيس الوزراء، ويا سيادة وزير الداخلية، أين الدولة وأين الدستور والقانون، وأين أنتم من مسؤولياتكم؟!

a_algammal@yahoo.co.uk