أنا وهاتفى الذكى!

جمال أبو الحسن الأحد 15-03-2015 21:30

بدأتُ ألحظُ مؤخراً أنه من أكثر الأشياء التى أركن إليها فى حياتى. الصديق وقت الضيق، وهو صديق فى الضيق واليُسر معاً. فى وقت الشدة، وساعة الانبساط. هو الدليل إذا ضللتُ الطريق، والمُتابع لسعراتى الحرارية فى معركة الريجيم، والرفيق فى أوقات الملل والفراغ. هو الملاذ عندما لا يبدو أن لدى الأصحاب ما يضيفونه فى جلسات الصفا، وهو الملجأ فى الاجتماعات البليدة المتطاولة.

مؤخراً بدأت أتأمله، فأدركتُ فجأة أن تكوينه الرشيق البديع هو من أحب المناظر إلى قلبى. أصحو فيكون أول من يُصادفنى، وهو آخر من يودعنى قبل أن أخلد للنوم. هو يُصاحبنى حيث لا يصاحبنى أحد. (نعم، أنا مثلك لا أدخل دورة المياه إلا وهاتفى الذكى معى!). ومؤخراً فقط، عرفتُ أن بإمكان صديقى هذا أن يخبرنى باللحظة المناسبة التى يمكن فيها أن أترك الفيلم فى السينما لأذهب لدورة المياه. بل بإمكانه أن يخبرنى بما فاتنى من أحداث لدى عودتى! (تطبيق اسمه RunPee، أى اذهب بسرعة لتقضِ حاجتك!).

على نحو ما أشعر بالفخر لأننى أضع هذه الأعجوبة فى جيبى. القوة الكومبيوترية لهاتفى النقال تفوق الحاسوب الجبار لوكالة ناسا عندما أرسلت أول إنسان للقمر. ولكن للأسف لا مجال للفخر، فهناك 2 بليون إنسان على ظهر الكوكب يشاركوننى هذه الأعجوبة. وبختام العقد الحالى، أى بعد خمس سنوات فقط، سيصبح 80% من الأشخاص البالغين على ظهر الأرض لديهم هاتفٌ ذكى. إنها تكنولوجيا مصممة للانتشار الكاسح. قوتها تكمن فى ذيوعها الحتمى عبر إشعار من لا يمتلكها بأنه يفتقر إلى شىء حيوى ولا غنى عنه.

هناك شىء واحد يزعجنى: هاتفى الذكى يصير، مع الوقت، أذكى منى!

لا يحتاج المرء لخيال جامح ليتصور المستقبل. الهاتف الذكى يعرف الكثير عنى. الكثير جداً. هو ليس مثل الكمبيوتر الشخصى الذى أتركه على المكتب. هو رفيق دائم، يذهبُ أنى ذهبت. يُقابل من أقابل. هو يعرف أين أنا الآن. قريباً، سيدرك تقريباً كل شىء عنى. سيعرف عنى أكثر مما أعرف عن نفسى! سيعرف الكتب التى قرأتها، وسرعة قراءتى لهذه الكتب، والصفحات التى توقفتُ عندها بالضبط. وبالتالى، سيتمكن بسهولة من أن يقترح على الكتب التى أحتاج لقراءتها. غالباً ستكون اقتراحاته فى محلها لأنه ببساطة يعرف أكثر!

هل نمد الخط على استقامته لنقول إن الهاتف النقال يُمكن أن يتدخل فى حياتنا العاطفية؟ هذا يحدث بالفعل من خلال موقع «Tinder» للعلاقات الرومانسية. الموقع يرتاده 30 مليون شخص يومياً. هو يتيح لقاءات فى التو واللحظة بين الراغبين من الجنسين ممن يتواجدون فى مكان قريب. المستقبل قد يحمل ما هو أكثر من ذلك. قد تجد الهاتف يقول لك يوماً: «أنا أتابعك منذ زمن، وأعرف كل علاقاتك العاطفية، ما نجح منها وما فشل. أعرف أيضاً ميولك ورغباتك وطموحاتك. وبُناء عليه، صدقنى لا تتزوج هند، بل لُبنى!».

ليس فى الأمر مبالغة. الهواتف الذكية هى العلامة التكنولوجية المميزة فى عصرنا الحالى. تماماً كما كانت الطباعة والمحرك البخارى فى وقت سابق. مثلما كانت هذه النقلات التكنولوجية ثورة فى عصرها، فإن الهاتف الذكى سيغير حياتنا. سيرسم علاقاتنا بمن حولنا وبالعالم. سيعيد تشكيلنا على نحو جديد يصعب تصوره على نحو كامل، لكنه يتبدى أمام أعيننا يوماً يوم.

يحتاج الأمر إلى ربط تكنولوجيا الهاتف الذكى بتكنولوجيا أخرى تُعد الأخطر فى عصرنا لتكتمل الصورة. إنها «البيج داتا»، أى تكنولوجيا «المعلومات هائلة الحجم». يُقال إننا لو جمعنا المعلومات والبيانات المتوفرة الآن على ظهر الكوكب، ووضعناها فى أقراص مُدمجة (CDs) فإن هذه الأقراص يُمكن أن تُشكل خمسة أعمدة ضخمة يصل كلٌ منها إلى القمر!

لدينا حجم غير مسبوق من المعلومات. فى عام 2000 كان ربعها فقط مسجلا رقمياً. اليوم 2% فقط من هذه المعلومات غير محفوظة رقمياً. «البيج داتا» تتيح حساب الاحتمالات عن كل شىء تقريباً: الطرق، الأمراض، العلاقات بين البشر.. أى شىء وكل شىء. التضافر بين «البيج داتا» والهواتف الذكية سينتج لنا «عالماً سائلاً»، كما سمته الإيكونوميست، عالما تذوب فيه الفواصل بين المنتج والمستهلك، بين القارئ والكاتب، عالما للمكان والزمان فيه معنى آخر.

تأمل الجملة الأخيرة قليلاً. هى ليست وصفاً بلاغياً. أنا الآن أكتب المقال، وأُتابع تطورات المؤتمر الاقتصادى من خلال تعليقات عشرة أصدقاء، يعيشون فى أربعة بلاد مختلفة، عبر «الواتس آب». هاتفى يتيح لى اختيار من أريد التحدث معه، بغض النظر عن مكانه أو مكانى. يتيح لى أن أكون متواجداً ومتفاعلاً فى أكثر من مكان فى الوقت نفسه.

فى أحيان كثيرة أنظر إلى هذا الصديق الخطير، ويختلط على الأمر: هل أنا الذى أصطحبُ هاتفى الذكى، أم هو الذى يصطحبنى؟

gamalx@yahoo.com