إذا تأملنا المشهد منذ قيام ثورة يناير التي كان وقودها الشباب، نرى أنه منذ أن انفض الميدان يوم 11 فبراير وحال الشباب في مصر يعود إلى ما كان عليه أيام عهد مبارك الفاسد، حتى بعد مشاركتهم في ثورة 30 يونيو. فبعد أن كان الشباب في صدارة المشهد، وفي قلب الميدان، وفي منتصف الصورة، عادوا من جديد ليحتلوا موقع الصدارة على الهامش، بعيدا عن سمع وبصر الإعلام والدولة. والكثير منهم المنخرط في العمل السياسي والحقوقي يقبع في السجون بينما نظام مبارك الذي ثار الشباب عليه، ومن ورائهم الشعب، نال البراءة. وبرغم الدلالات الكثيرة التي تشير إلى غليان تحت السطح، فإن المهتمين بتحليل أسباب غضب الشباب قليلون، والأغلبية إما تتجاهل الظاهرة تماما، أو تتعامل معها باستهجان على أنها ظاهرة على فيسبوك وتويتر فقط، وأن هذا العالم الافتراضي لا يمثل الواقع على الأرض، وأن «آخرهم هاشتاج وريتويت».
غير أن الكثير من المؤشرات تدل على عكس ذلك. فالشباب غاضب، ويعبر عن غضبه في كل مكان أُتيح له: في الجامعات، والمدرجات، والشوارع، وحتى السجون. ومنهم من قرر العزوف والتنفيس عن غضبه باللامبالاة أو الانغماس في التفاهات. ومنهم المطحونون اقتصاديا واجتماعيا الذين رأوا أن يرموا بأنفسهم في التهلكة والمجازفة بالموت على شواطئ أوروبا غرقا، بحثا عن لقمة العيش وحلم الحياة الكريمة، وهربا من البطالة والتهميش على أرض الوطن. الدلائل كثيرة ولكني سأستشهد بعدد محدود من الوقائع:
1- في واقعة ضرب مدرس لتلميذ في الصف الخامس الابتدائي حتى الموت، لفت نظري تصريح لأحد زملاء الطفل الشهيد إسلام، الذي قال فيه: «كلنا مش عايزين نروح المدرسة تاني ولو ما جابوش حق إسلام والمدرس مات زي ما موته هنروح نكسرها» (وفقا للتحقيق الذي نشرته جريدة اليوم السابع بتاريخ 8 مارس). إذا تأملنا العبارة نجدها خطيرة حيث إن قائلها عمره 12 سنة. هذا الطفل وزملاؤه يخافون العودة إلى المدرسة لأنها أصبحت بالنسبة لهم سجنا وليست مكانا للتعليم والتنوير. وأصبح المعلم جلّادا بلا رحمة لا يتورع عن ضرب الأطفال حتى الموت. وهي ليست المرة الأولى التي يموت فيها طفل على يد أستاذه من فرط التعذيب ولن تكون الأخيرة طالما أنه ليس هناك قانون نافذ ومحاسبة عادلة رادعة للجاني، وطالما أن المنظومة التعليمية الفاسدة التي أفرزت هذا السلوك لم ولن تتغير. ولقد استشعر الطفل المتحدث بفطرته التي لم تعد بريئة أن الحق لن يعود وأن المنظومة لن تنعدل، حيث أكد أنه ما لم تتم محاسبة الجاني وتطبيق القانون، فإن الأطفال سيأخذون الحق بأيديهم ويقيمون شريعة الغاب، ويقومون بتكسير المدرسة، التي أصبحت بالنسبة لهم رمز القمع والظلم.
2- في واقعة وفاة الطالبة يارا طارق في الجامعة الألمانية تحت عجلات أتوبيس الجامعة، دشن بعض الطلاب من زملائها أغنية «نهاية حلم». المتأمل لكلمات الأغنية يجد فيها ملخصا لما يشعر به الشباب من يأس وغضب تجاه المسؤولين سواء في الجامعة أو الدولة، الذين لا يسمعون صوتهم ولا يفهمون لغتهم. والغريب أن المطالب والإحباطات تتشابه بين الواقعتين، حيث تؤكد كلمات الأغنية المطالبة بحق يارا والمحاسبة لمن أخطأ، مثلما طالب بها الطفل في واقعة استشهاد إسلام في مدرسة السيدة زينب. إليكم بعض أبرز العبارات التي جاءت في الأغنية:
«أصلنا في بلد أرخص ما فيها الدم..... لو ماتت إنسانيتي وجودكم في الدنيا السبب.... لو سكتنا على حقنا حيموت مننا أكبر عدد....إنت فاكر إنك تقدر تهرب من المحاسبة؟ حساب ربنا مش زي حساب دنيتنا الفانية... مش فارق معاك دمنا ومش فارق كلامنا...خليك فاكر إن إهمالك كان السبب في ألمنا....كسرت كل حاجة مستحيل إنها تتصلح....لسه بعد كل اللي قلته مقتنع إن إنت الأصلح؟»
الكلمات في نظري تعبر عن غضب من جيل يشعر بأنه مهمش مهما كانت طبقته الاجتماعية ومستوى تعليمه وفرصه في العمل. فبالتأكيد خريجو الجامعة الألمانية هم من الطبقة المتوسطة الميسورة. ومع ذلك، فهناك شعور بالسخط على من هم في السلطة، سواء في الجامعة أو في الدولة، لغياب دولة القانون وانعدام المحاسبة العادلة الناجزة لكل من أخطأ، والشعور بعدم الفائدة في الكلام لأن المسؤولين لا يسمعونهم ولا يأبهون حتى لدمائهم. وحتى اختيار «الراب» كوسيلة لإيصال كلمات الأغنية له مغزى، ففن «الراب» ولد في أحضان العبودية في أمريكا منذ القرن السابع عشر، فهو فن مغموس بالشعور بالقهر والظلم والتهميش. وهذا يفسر انجذاب شرائح عريضة من الشباب له عالميا، فهو فن ثائر ومتمرد على كل أشكال السلطة القمعية من وجهة نظرهم، سواء الأسرة أو المجتمع أو الدولة.
3-واقعة انضمام شباب من الطبقة الوسطى مثل إسلام يكن ومحمود الغندور لداعش. الأسباب كثيرة تستحق دراسة تحليلية ومقالا آخر، ولكن من يقرأ عنهم يجد أن هؤلاء الشباب كآلاف مثلهم لم يشعروا أن لهم مكانا في المجتمع، وسواء اتفقت أم اختلفت، فإن هذا الشعور حتما يولد الإحباط واليأس، ويجعل الشباب عرضة للانجذاب لفكر متطرف شاذ، ويسهّل المهمة على من يبحث عن كوادر جديدة يجندها في داعش أو غيرها.
4- أحداث استاد الدفاع الجوي ومقتل شيماء الصباغ. لقد أعلنت وزارة الداخلية التحقيق في الواقعتين، ولكن حظر النشر أضفى هالة من الغموض وأعطى إحساسا لدى الشباب بعدم الشفافية والرغبة في التغطية على الجاني الحقيقي في الواقعتين، مما يؤجج الشعور بالغضب تجاه السلطة.
إذن هو نفس المفهوم الذي تطرق له الطفل زميل إسلام بفطرته، ومن بعده زملاء يارا طارق في الأغنية البليغة «نهاية حلم» – مفهوم غياب المحاسبة، وبالتبعية دولة القانون، وعدم محاسبة المخطئ والمسؤول. هو إذن غياب العدل. إن الله عز وجل حرم على نفسه الظلم وكتب فوق عرشه أن «العدل أساس الملك». وفي دولة الظلم لا يستقيم الحال، ولا تنهض الحضارة. ومن الخطورة أن تستعدي دولة شبابها وهم الأغلبية فيها، وينتهي بهم الحال أن يشعروا بمرارة موت الحلم بدلا من أن يكونوا هم نواة تحقيقه. هذه هي رسالة الشباب التي أرى أنهم يحاولون إيصالها لمن يسمع ويهتم. ولا أجد أبلغ من بعض عبارات أغنية «السكة شمال» لفريق كايروكي لتلخص لسان حال الشباب الذي يصرخ «ليه بتربي فينا اليأس»:
«من صغري بحاول أمشي دغري/ ما استسهلتش وطلعت كبري...
بس بلدنا مش عاوزانا / وبتدينا على قفانا
السكة شمال واليمين مش شغال/ على فين رايحين؟
أنا زيي زيك ماليش دور/كومبارس في مسرح مهجور
البطل فيه أبودم تقيل/ وأنا وإنت واقفين طراطير....
ليه بتربي فينا اليأس...
أحلى مافيكي راح ببلاش/ وكلمة الحق ماتسواش
دفنتوا حق الجدعان/ قتلتوا كل الأحلام»