توقف..
انتظر قليلا..
لا تبدأ في قراءة المقال قبل أن تلف بكرة الماوس حتى تصل إلى نهاية المقال، ستجد تحت السطر الأخير عنوان بريدي الإلكتروني.
إقرأه بتمعن..
نعم إنه «تماهي»..
«تماهي» كلمة غامضة رغم شيوعها بين فئات من المثقفين، وقد كتبت لسنوات رواية بهذا العنوان، ولدىّ مدونة بهذا الاسم أيضا تتضمن تلك المقالات التي توقفت بعد احتلال العراق في ربيع 2003، واحتلال قطعة جديدة من مساحات التفاؤل في نفسى، الأهم أن لدى رواية لم (وربما لن) أكتبها بعنوان «المتماهى.. مشروع رواية العمر».. ويعرف أصدقائي الذين يطالبونني دوما باستكمال هذه الرواية، أنني لن أنتهي منها (ليس بسبب الكسل)، ولكن لأنني أعيشها، فهي رواية مفتوحة، متماهية مع الواقع بدرجة يصعب معها أن تستقر على حال، وأنا للأسف مثل روايتي متماه، والمتماهي ياسادة أقرب الناس للذوبان فيما يحب ويعتقد ويعيش، لذلك يعانى أزمات الواقع أكثر من غيره، فنحن نقول يتماهى مع الوطن، أي يصبح هو الوطن، وكلما أصاب الوطن ضرر، لا يتعاطف المتماهي معه، لأنه «هو الوطن»، لأنه يشعر بالضرر وكأنه يصيبه شخصيا.
يقولون إن اشتقاق الكلمة جاء من محاولة «أن تكون أنت هو»، أي أنك تضع نفسك دوما مكان الآخر، فتشعر بمعاناة الجائع، ومذلة المهان، وغضب الثائر.. إلخ..
وبما أن الوطن في أسوأ حال، فأنا يا سادة في أسوأ حال، صحيح أننى «أقاوح» وأتحدث كثيرا بطريقة «ماتقدرش»، وأنا أعلم أن الطرف الآخر يستطيع بسهولة أن «يفعصنى»، لكن ما باليد حيلة، و«بما إننا عايشين حياة زيها زى الموت، يبقى نموت بكرامة أحسن مانعيش في ذل»، وخلال الفترة الماضية، شعرت بأننى بدأت أتعلم آفة جديدة، وهى آفة التوازنات، و«أقول عيب مايصحش تقول كذا عشان فلان هيزعل، وفلان كان صديقى، والجملة دى جارحة لناس أكلت معاهم عيش وملح».
أنا الذي كنت أردد دوما مقولة «الحق لم يجعل لى صاحبا» مفضلا أن أكون وحيدا، كأبى ذر على أن أكون نجما يتخذ من شعرة معاوية منهجا، أنا الذي قضيت معظم سنى العمر في «المقاوحة» أحاول الآن أن أبدو مجاملا، لذلك تخرج كلماتى ناقصة، والتلميح فيها أكثر من التصريح، وأقنعت نفسى بآليات جديدة على طريقة «كل لبيب بالإشارة يفهم» ولا داعى للفجاجة وكلام السوقيين/ فلم أعد أقول للأعور أنت أعور في عينه، لأن هذا في نظرى ليس من الذوق خالص!
مع ذلك شعرت بمزيد من الوجع، والأخطر أننى شعرت بمزيد من الاستهبال الذي يضر بمصلحة الوطن.
الوطن؟!
آه يعني أنا.. فأنا «الوطن» في صورته الشعبية، لذلك أنا حزين وضعيف ومستباح.. في الفرح ينسونني وفى الهم يدعونني، على عكس ذلك الذي يختزل «الوطن» في صورته السلطوية، ويردد بتبجح صيحة «أنا الدولة» المنسوبة للويس الرابع عشر.
لذلك يا أصدقائي المنسيين في الفرح المتورطين في كل هم ليس أمامى إلا نهج أبى ذر.. الحق فوق الشلة، والعدل فوق الملك، والفقير فوق الوزير، ومصلحة البلاد فوق مصلحة الأسياد.
كتبت هذه السطور بتصرف قليل قبل سنوات في مفتتح حملة لفضح مافيا بيع أرض مصر للأجانب، وتساءلت في مقال بعنوان «متر الوطن بكام؟» عن خطورة ذلك على الأمن القومي، خاصة وأن حمّى البيع تحولت إلى وباء مهلك شارك فيه مسؤولون ومهدت له قوانين، ومع التحولات التي أعقبت ثورة يناير تجمد مؤشر البيع للأجانب انتظارا لما تسفر عنه الأمور، ومع ترتيبات المؤتمر الاقتصادي الذي تسسعى مصر من خلاله لتنشيط الاستثمار، تم تعديل قانون الاستثمار، ولايعنيني منه الآن إلا البند الذي ينص على حق المسؤولين في منح أراضي لشركات الاستثمار دون قيود يحددها القانون، وهذا باب كبير للفساد يعاد فتحه، والأخطر أنه يعيدنا إلى مستنقع تمليك أرض مصر للأجانب من خلال حق الوزير المسؤول تخصيص أرض وتمليكها للشركات التي يريد تشجيعها، وهو أمر يجب التراجع عنه فورا في القانون الجديد الذي اطلعت على مشروعه شبه النهائي، وهو مشروع يحتاج إلى مراجعة لأنه تجاوز حدود تشجيع الاستثمار إلى تدليل المستثمر، ونفاقه، وإغرائه بمنح لايملكها الوزير ولا أي مسؤول، وهي أرض الوطن.
يا سادة أرض الوطن ليست للبيع، وليست مستباحة لأي أجنبي، وهذا البند يجب أن يحدد مدة لحق الانتفاع بدلا من التشجيع المجاني والصياغات المفتوحة التي تتحدث عن المنح والتمليك، وإعطاء الوزير حق التصرف في أرض الوطن كأنها عزبة يملكها مسؤول أو جيل، الأرض لنا وللأجيال القادمة ويحرم على أي كائن من كان أن يبيعها لأجنبي، فمصر ليست للبيع، مهما كانت التحديات التي تواجهنا.
ولنا حديث آخر أكثر تفصيلا قبل إقرار القانون.
جمال الجمل