توبة طرف أم مصالحة طرفين؟

حسن حنفي الأربعاء 11-03-2015 21:35

يحزن الإنسان عندما يرى المواطنين يسقطون كل أسبوع من الطلبة أو من الشرطة. فالدم لا وظيفة له، دم القاتل أو دم المقتول. ويفرح عندما تجف الدماء، بتحكيم العقل أو أجهزة الأمن. ويشعر أن الطريق قد وصل إلى نهايته، وأن المصلحة العامة تغلبت على الدم المراق، المصلحة الخاصة. فالسلطة أقل قيمة من الدم المراق. وهو ما نادى به البعض لوضع حد لهذا الطريق المسدود. فالعقل له الكلمة فوق القوة. وهو الطريق الأسلم بعيدا عمن يريدون كب الزيت على النار. فلهم مصلحة عند أحد الفريقين، السلطة القائمة أو السلطة القادمة. وما إن يظهر خبر المصالحة حتى يسارعوا بالتكذيب وكأنها جريمة. ويفرحون ولا يحزنون.

ويكون الحوار بين التيار المدنى أو العسكرى والتيار الإسلامى بجميع أطيافهما. فالتيار المدنى يضم الليبرالى والاشتراكى والناصرى والماركسى. والتيار الإسلامى يضم جميع أطيافه، الليبرالى واليسارى واليمينى الحاكم والذى كان فى السلطة. فالأطراف هى التى تتلاقى، اليسار الإسلامى واليسار الليبرالى، فى اليسار، والليبرالى الإسلامى مع الليبرالى المدنى فى الليبرالى. فالليبرالى أى الحرية حاجة الجميع. واليسارى أى العدالة الاجتماعية أو الاشتراكية حاجة الجميع. وكلاهما ضد الاستبداد والرأسمالية. فالحوار لا يقصى أحدا. والمصالحة بين العالم الإسلامى التى تعقد فى مصر لا تستبعد تركيا ولا إيران وهى أطراف فى الخصومة. وقد يلتقى الطرفان من الخلف. وقد بدأ الإسلام بالمؤاخاة بين الأوس والخزرج، بين مكة والمدينة. ولو كان الرسول حاضرا حلف الفضول لكان أحد موقعيه، وهو حلف التآلف بين القبائل العربية. وهو الذى دعا كل قبيلة للإمساك بطرف من عمامته بعد أن وضع الحجر الأسود بيديه «لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِى الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُم». وقد تبلورت الخصومة فى حلين: الحل الأمنى أو الحل السياسى. فالحل الأمنى لا نهاية له مثل الدم. والحل السياسى حله فى الحوار والمصالحة وتبادل المصالح والتفاهم وتبادل المنافع والتآلف فى السلطة، ليس على التبادل بل على التزامن كما رفع من قبل، الشراكة لا المغالبة. فالديمقراطية ليست بالضرورة هى ديمقراطية الصندوق، ديمقراطية الأغلبية والأقلية، أغلبية اليوم، وأغلبية غد إذا أحسنت الفعل بل ديمقراطية التآلف، أغلبية وأقلية معا بالتشاور اليوم وغدا، ومشاركة فى المسؤولية وليس انفرادا بالمسؤولية. وما ينفع الناس هو الأبقى. وهذا هو معنى المشاورة «وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ» دون خلاف حول الثورة والانقلاب ومعناهما، قد يكون كلاهما صحيحا.

لا يعنى الجناح المتطرف الجناح الذى فى الطرف، الجناح المتشدد. بل الجناح صاحب الموقف المعتدل الذى يأخذ بالشرعيتين معا. هو الجناح الذى مازال فى جماعة الحوار ولم ينفصل عنها لا بإرادته ولا رغما عنه مفصولا عن الجماعة بقرار جماعى لأنه عصى أمرها والتزم بقرار آخر من عنده أصلح وأصوب للجماعة. وليس هو الطرف المفصول عن الجماعة وبدأ مهاجمتها. وانضم إلى معسكر أعدائها، مالا وولدا. فهذا ليس له سمع ولا طاعة داخل الجماعة الأم. إنما هو الطرف المعتدل الذى لا يقصى الخصم. ولا يعتبر نفسه مالكا للحقيقة المطلقة.

ولا تعنى المصالحة أن طرفا خاطئ وطرفا صحيح وأن على الخاطئ أن يعود إلى الصحيح. فالحقيقة متعددة. الحقيقة وجهة نظر، رؤية. إنما تعنى مقارنة الوجهتين من النظر والتقريب بينهما فى وجهة نظر ثالثة وفقا لمنهج جدلى يعرفه الفلاسفة. ولا تعنى توبة طرف وصواب طرف آخر على حق. المصالحة هنا تعنى العودة من الضلال إلى الهدى، من المعارضة إلى النظام، ومن العنف إلى السلم كما يفعل المتدينون. وقد تقتضى التوبة العتاب لأنها اعتراف بالذنب. إن كل هذه الألفاظ من اختراع أجهزة الأمن. وتتضمن الهدى والضلال، مثل المراجعات، المصالحات، المصارحات. وكلها خارج التحليل الاجتماعى لموقف الطرفين، واعتراف طرف بخطئه وتسليمه بحق الآخر. والتمسك بالأسماء له دلالته والأفضل اسم من الفريق الثالث يجمع بين الطرفين ويجد كل طرف نفسه فيه. ويستحسن أن يكون الطرف الثالث محايدا حتى لا يشعر فريق أنه منحاز لفريق دون فريق فتسقط الوساطة. وفى نفس الوقت يجد كل طرف نفسه فى الطرف الثالث. وقد حدث ذلك أثناء تكوين «الجمهورية العربية المتحدة» 1958-1961 بين الجمهورية العربية السورية وجمهورية مصر العربية عندما تمسكت مصر بضرورة الحفاظ على اسم «مصر» فى الجمهورية الجديدة. وهو الاسم الذى بقى على مدى السنين وأصبحت «جمهورية مصر المتحدة». وهو أول بند فى جدول الحوار أن يظل اسم الجماعة كما هو «الإخوان المسلمون» كما وضعه مؤسسها حسن البنا أم يتغير حتى لا يثير فى الذكرى آلام عشرات من السنوات مضت وتظل جماعة دينية تربوية مثل «الشبان المسلمون»؟ أن يبقى الجيش عاملا بالحياة المدنية لسرعة إنجازاته ونقائه كما فعل فى السنوات الأخيرة أم يعود إلى الثكنات، مكانه الطبيعى؟ والحوار على هذا المستوى لا يجدى لأن التاريخ يتغير، والمكان والزمان يتغيران، والحوار على هذا النحو شكلى لا يدخل فى صميم الموضوعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية حول الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والحرية، والكرامة الإنسانية، وحقوق الإنسان، واستقلال الجامعات، والحد الأعلى للأجور، والحريات العامة، والعشوائيات، ومكافحة الفساد، وتحسين الخدمات العامة. يدخل الحوار فى الموضوعات التى تمس حياة المواطنين وليست الموضوعات النظرية أو الخيالية الخالصة. ويبدأ الحوار بالجامعة فهى ساحة الحوار فتتحول من ساحة للعنف إلى ساحة للحوار. ويشارك المجتمع السلبى الذى يخشى من السياسة ونتائجها على حياة الطالب والمواطن وبدلا من تخويف الطالب والموظف والشرطى والجندى والعامل من الاشتغال بالسياسة يظهر المواطن والمجتمع الملتزم، الحريص على حياته ومستقبله. وبدلا من الحديث فى السياسة على استحياء وفى خوف أو فى صمت وفى خلايا سرية يكونون أكثر شجاعة. يمارس كل منهم حقه كمواطن وواجب المواطنة.

الدين ليس توبة بل هو اجتهاد، يخطئ ويصيب. والسياسة ليست توبة بل اختيار، يخطئ ويصيب. والالتزام ليس جريمة بل ممارسة للمواطنة. والسياسة ليست فقط مظاهرة فى الشوارع وممارسة العنف تعبيرا عن الغضب غير المضبوط وغير العاقل بل هى حساب دقيق لمكونات التقدم الاجتماعى. السياسة مولد للطاقة. والطاقة دافع للحركة. والحركة أساس التغير الاجتماعى، خطوات واحدة تلو أخرى. وكما خـُلق العالم تدريجيا يعاد بناء المجتمع تدريجيا دون طفرة أو سكون.