يخطئ من يعتقد أن المأزق الدستورى الذى وصلنا إليه بعد قرار المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية مواد فى قانون الانتخابات تتعلق بتوزيع الدوائر الانتخابية؛ هو من الأمور المستحدثة أو الجديدة على الدولة المصرية. فالحقيقة هى أن المحكمة لعبت دوراً مهماً فى الحياة السياسية المصرية عبر كل العصور منذ إنشائها عام ١٩٨٠ حيث ألغت أو حكمت ببطلان قرابة ٢٠١ قانون حتى عام ٢٠٠٠ (٢٢ بين عامى ١٩٨١ و١٩٨٥، ٢٠ بين ١٩٨٦ و١٩٩٠، و٥٧ بين ١٩٩١ و١٩٩٥، و١٠٢ بين ١٩٩٦ و٢٠٠٠). وكان من بين الأحكام المهمة التى أصدرتها خلال هذه الفترة إلغاء برلمانات أعوام ١٩٨٤، ١٩٨٧، ١٩٩٠، ١٩٩٥، حتى دان الأمر للقضاء للإشراف على الانتخابات، وهو ما بدأ جولة أخرى من التوتر بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية فى عهد الرئيس حسنى مبارك، بلغت ذروتها فى السنوات التى تلت ثورة يناير ٢٠١١ عندما حكمت بإلغاء برلمان عام ٢٠١٢، وتصدت للإعلان الدستورى الذى أعطى للرئيس سلطات مطلقة فى نوفمبر ٢٠١٢، وهو ما بدأ العد التنازلى للثورة الثانية فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣.
وهكذا فإن حكم المحكمة الدستورية العليا الأخير هو امتداد لدورها الذى لعبته فى الحياة السياسية المصرية، والذى لم يخل من إثارة ومفاجآت جعلت السلطة التنفيذية تدخل فى دائرة من الارتباك. فبعد أن صار «المؤتمر الاقتصادى» هو محور الحياة المصرية خلال الشهور الأخيرة، والأمل الذى تتعلق به أنفاس الدولة لكى تحصل على الانطلاقة الاقتصادية التى تتمناها؛ فإن البدء فى إجراءات الانتخابات التشريعية كان جزءا مهما من حزمة سياسات تدل على أن مصر ماضية فى تنفيذ خارطة الطريق، والإصلاح الاقتصادى الجاد الذى عبرت عنه قوانين اقتصادية أبرزها قانون الاستثمار.
وبينما كان انتخاب مجلس النواب السبيل لإقناع الدول الغربية والمنظمات الدولية بجدية مصر فى السير على الطريق الديمقراطى، فإن قانون الاستثمار كان هو المقدمة لإقناع المستثمرين المحليين والعرب والأجانب بأن مصر ماضية فى طريق الإصلاح الاقتصادى. كل ذلك تعرض لهزة كبيرة مع حكم المحكمة التى حافظت من ناحيتها على استقلال السلطة القضائية، وهذا يفترض أن يحسب لصالح الإدارة السياسية الحالية، ولكنه وسط الهواجس والشكوك الذائعة فى الداخل والخارج، فإن القرار صار تعبيرا عن رغبة فى كسب شهور إضافية للحكم دون مجلس تشريعى يراقب ويحاسب.
الرأى هنا أن ذلك غير صحيح، بل إنه أبعد ما يكون عن الصحة، ليس فقط لأن الرئيس يتوق إلى وجود من يتحمل معه المسؤولية، ولكن لأن هناك تاريخا طويلا للاستقلال القضائى فى مصر، ولأنه ليس مطلوبا من المحكمة الحكم إلا وفقا لأحكام الدستور، ولا يعنيها فى ذلك الظروف السياسية أو الاقتصادية السائدة، والمتغيرة والمتقلبة بحكم طبيعتها. هذا يقودنا فورا إلى مربط الفرس فى المأزق الدستورى الذى وصلنا إليه، والذى نحن بصدد إصلاحه خلال شهر من الآن حسب ما هو مقرر. ولكن الثابت أن ما نريده أمر، وما قد تراه المحكمة مرة أخرى أمر آخر؛ فلا شك، وفقا لما بات نوعا من التقاليد المصرية، أن طرفا ما فى الحياة السياسية المصرية سوف يطعن فى القانون الجديد، وساعتها فإن المواءمة مع الدستور سوف تظل معلقة بما تراه المحكمة.
فرغم أن دستور عام ٢٠١٤ يعد أفضل الدساتير المصرية من حيث المبادئ الأساسية، فإنه من الناحية العملية والإجرائية كان من ناحية كثير التفاصيل (٢٤٧ مادة)، ومن ناحية أخرى كانت التفاصيل معقدة، وقائمة فى كثير من الأحيان على التلفيق بين مذاهب شتى حاولت إرضاء كل الأطراف المصرية، فانتهى الأمر إلى مواد دستورية لا ترضى أحدا، وعصية على التطبيق، وفاتحة لأبواب شياطين قادتنا إلى قبول المحكمة الطعن الدستورى فى قانون الانتخاب، ومن ثم تأجيل الانتخابات نفسها بعد أن بدا أن عجلة دورانها قد دارت بالفعل. فالمادة ١٠٢ من الدستور نصت على عدد محدد لمجلس النواب «لا يقل عن أربعمائة وخمسين عضوا»، ثم بعد ذلك تضع المادة مجموعة من المواصفات الواجبة فى المرشح لمجلس النواب، ولكنه يعود بعد ذلك فيفتح الباب للسلطة التنفيذية عندما يجرى النص «ويبين القانون شروط الترشيح الأخرى، ونظام الانتخاب، وتقسيم الدوائر الانتخابية»، إلا أنه يعود مرة أخرى للتقييد حينما يقيد واضعى القانون «بمراعاة التمثيل العادل للسكان، والتمثيل المتكافئ للناخبين»، ثم يعود مرة أخرى للإباحة «ويجوز الأخذ بالنظام الانتخابى الفردى أو القائمة أو الجمع بأى نسبة بينهما». هذه المراوحة دعوة مباشرة للالتباس والارتباك الذى لم يكن ضروريا، خاصة عندما لا يوجد قواعد متفق عليها لتحديد ما هو «عادل» و«متكافئ» إلا اعتبارات الملاءمة فى البيئة الجغرافية والديموغرافية المصرية.
وكان الرأى عندنا قبل وبعد عهد الثورات أن مصر تحتاج دستورا بسيطا يحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والعلاقات بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، بحيث تكفل الفصل والتوازن بينها، وذلك فى ظل نظام واحد نختاره برلمانياً أو رئاسياً (كان تفضيلى دائما الثانى)، والمهم هو الابتعاد عن النظم «المختلطة» الباعثة دائما على الارتباك خاصة فى دولة نامية مثل مصر. مثل هذا التبسيط كان دوما عصيا على النخبة السياسية فى مصر والتى كانت تفضل دوما أنواعا من «العك الدستورى» خاصة خلال الفترة التى أعقبت الثورة الأولى، حيث كانت هناك «تعديلات دستورية» تم الاستفتاء عليها، فتلاها إعلان دستورى لم يُستفت أحد عليه، ثم بعد ذلك جاء «دستور تكميلى» تم إلغاؤه بعد ذلك ليحل محله بعد قليل إعلان استبدادى صريح. ويجب أن نعترف بأن كل ذلك جرى تحت ضغوط زمنية، وفى ظل جدول أعمال اختفت منه مناقشات وحوارات راشدة عن الغرض من ذلك كله، وما هى ظروف البلاد التاريخية والجغرافية والسكانية التى ينبغى ترجمتها فى الدساتير والقوانين التى نشرعها على المجتمع. ومن تعجب من حيرة وتخبط هذه النخبة السياسية والحزبية، فضلا عن جماعات شباب الثورة، وعجزهم جميعا عن التوافق على المنهج الذى تسير عليه البلاد، خلق حالة من البلبلة لدى كل من كان عليهم صياغة قانون للانتخاب يكاد يكون من المستحيل ألا يكون هناك طعن عليه بشكل أو بآخر.
هل يوجد حل لهذا المأزق؟ نعم يوجد، ومربط الفرس فيه هو أننا لا يمكننا الآن الحديث عن تعديل دستورى جديد، ولكننا نحتاج دورة برلمانية تشريعية على الأقل تعود فيها مصر بلدا طبيعيا مرة أخرى فتقضى على الإرهاب، وتتجاوز الظروف الاستثنائية الثورية وتمضى فى طريقها بما فيه التناول الحصيف للقضايا الدستورية المختلفة. فإذا كان ذلك كذلك فلابد من صيغة ما للتشاور مع المحكمة الدستورية العليا قبل صدور قانون الانتخاب على سبيل الاستثناء ولمرة واحدة، بحيث يمكن صدور القانون الجديد وإجراء الانتخابات على أساسه. ومهما كانت التحفظات على هذا القانون، فإن عدم صدوره أو تأخره سوف يكون له نتائج وخيمة على مستقبل البلاد.