الحالة «هايبر» جدا.. كل الناس «مأفْوَرة».. سلطة ونخبة وحزب كنبة!.
كنت أتصور قبل سنوات أن هذه الحالة فى حدود التعبير الأدبى والفنى، يعنى التمثيل بطريقة هنيدى ومحمد سعد، أو الغناء بطريقة مروة وهيفاء وهبى وسما المصرى، أو التقديم الإعلامى بطريقة عمرو أديب وتوفيق عكاشة، أو الكتابة بطريقة أحمد مراد، وكنت أنظر إلى ذلك من خلال رؤية الناقد والأديب الإيطالى الكبير أمبرتو إيكو للإفراط فى الإبداع وفى التلقى والتفسير أيضا، لكننى هذه المرة توقفت عند هذه الظاهرة فى السياسة، لأن السياسة أقرب للواقع، ومن الخطر أن يتمادى المشتغلون والمنشغلون بها فى التخيلات والشطحات والمبالغات.
لن أبالغ فى الحديث عن المبالغات السياسية فى واقعنا المبالغ فيه. سأكتفى فقد بإشارات سريعة لهذا الأسلوب، آملا أن نهدأ، ونتخفف من «الأفورة»، فنجد لكل حادث حديثه، ونحدد لكل داء دواءه:
■ بعد وفاة العاهل السعودى، تم الترويج لتغير موقف السعودية تجاه مصر، ووصلت المبالغات إلى الدرجة التى دفعت الرئاسة (على لسان المتحدث باسمها) لنفى وجود أى ضغوط من الملك سلمان على الرئيس السيسى لقبول مصالحة مع الإخوان، وفى رأيى أن النفى يعبر عن حساسية مبالغ فيها من حملات إعلامية (مبالغ فيها ايضا) خاصة فى الخارج. لنفترض مثلا أن السعودية لديها أجندة، ولنفترض أنها تسعى إلى ذلك، ما المشكلة؟ هذا طبيعى، واختلاف وجهات النظر بين الدول وارد، وفى النهاية مصر تقرر ما يتوافق مع مصالحها، لأن التعاون مع السعودية ليس علاقة حب، ولن يتحول إلى تبعية، لكنه تحالف إقليمى يحقق مصالح الطرفين، وإذا كانت مصلحة السعودية مع الإخوان، فلن تنصاع مصر لإرادة أخرى لا تلتقى مع مصالحنا، فالرياض لن ترث دور البيت الأبيض، وهذا يجب أن يكون معلوما وواضحا فى الداخل والخارج، للحاكم والمحكوم.
■ يتم الترويج للمؤتمر الاقتصادى كأنه مقامرة حياة أو موت، وكأنه «حفل نقوط» يفيض فيه المستثمرون بالهدايا والمكافآت لمساعدتنا فى حل جميع المشاكل الاقتصادية، حتى إننا لم نعد نسمع عن أى حلول أخرى، وصار المستقبل رهنا بنجاح هذا المؤتمر، وهذه مبالغة ساذجة، لأن حصيلة مثل هذه المؤتمرات تكون معروفة سلفا، ولا يمكن بناء اقتصاد دولة بمثل هذا الأسلوب وحده، ولا بالإفراط فى إنشاء الصناديق وجمع التبرعات من الداخل والخارج، الحلول دائما تأتى من خارج الصناديق.
■ أسعدنى نجاح الدبلوماسية المصرية فى عقد اتفاق ثلاثى مع السودان وإثيوبيا بشأن سد النهضة، ولم أنتظر حلا نهائيا للمشكلة بمجرد جلوس الأطراف على مائدة تفاوض، لكن فكرة التفاوض نفسها تؤكد أن القاهرة عادت لتتابع ملفاتها الحيوية بدأب، وأن وثيقة الاتفاق المبدئى على آلية تشغيل السد مجرد بداية ستتبعها خطوات أخرى أكثر وضوحا، وأتعجب من المبالغات الإعلامية التى تعاملت مع الاتفاق المبدئى كأنه انتصار نهائى. النجاح مسيرة، والطريق خطوات، ولا يجب أن نربى عقول الناس على أن كل شىء يتم بضربة واحدة، لأن هذه الخرافة لا توجد إلا فى قصص الساحرات.
■ أختتم ملاحظاتى بظاهرة التسريبات، وهى محاولة مبالغ فيها لإعطاء أهمية لمناقشات أقل من عادية فى المطابخ السياسية لكل الدول، ومحاولة تسويقها لجمهور النميمة باعتبارها «أسرارا خطيرة»، وكنت أتمنى ألا يتطرق الرئيس إلى مثل هذه الأساليب فى أحاديثه الرسمية، وأن يتم علاج ذلك بالأسلوب الأمنى المناسب، ومن خلال وسائط إعلامية ودبلوماسية مع الدول التى تستهدف التسريبات تعكير مناخ العلاقة معها.
اللهم بلغت، وأرجو ألا أكون قد بالغت.. كفانا الله وكفاكم شر «الأفورة».