(1)
■ بثت قناة «دريم» التليفزيونية، فى أثناء شهر رمضان المبارك، أربع حلقات من برنامج «الطبعة الأولى» كنت فيها ضيفاً على الإعلامى النابه الأستاذ أحمد المسلمانى.
ونشرت «المصرى اليوم» تلخيصاً وافياً لما تضمنته كل حلقة - باتفاق بينها وبين قناة دريم - فى اليوم التالى لبثها.
■ ومن ردود الأفعال التى نشرها بعض أرباب الأقلام، ومما بلغنى من عدد من الأصدقاء عن صدى ما بثته دريم أو ما نشرته «المصرى اليوم»، تبينت أن بعض المسائل تقتضى بياناً لحقيقة ما قلته، كشفاً لما أخفاه السياق من المعنى، أو إيضاحاً لما وقع من فارق بين النص المنطوق فى الحلقات التليفزيونية وبين النص المكتوب فى «المصرى اليوم»، أو تأكيداً لرأى رآه بعض المشاهدين أو القراء الكرام غريباً أو غير مألوف.
(2)
المسألة الأولى، التى اقتضت بياناً لحقيقة الرأى فيها، هى مسألة دور العلماء فى الشأن السياسى.
فقد فهم بعض الكتاب مما نشر، لا مما قيل، أننى أرى وجوب إقامة دولة دينية يقوم على شؤون الحكم فيها علماء الدين (أو رجاله)، وأننى أتخذ نموذجاً لهذه الدولة ما صنعه العلماء فى إيران من قيادة الثورة الإسلامية التى قضت على حكم الشاه وأقامت الجمهورية الإيرانية.
وهذا الفهم هو أبعد ما يكون عما قلته، وعما كتبته منذ أكثر من ثلاثين سنة، بل سبع وثلاثين سنة «!» ومما ينبغى شكر التقنية الحالية عليه أن النص الذى بثته قناة دريم لايزال محفوظاً عندها، وقد بدأت منذ (الثلاثاء 22/9/2009) فى إعادة بث الحلقات الأربع على قناتها الثانية «دريم2»، ويستطيع من شاء أن يرجع إلى النص المنطوق ليتبين حقيقة ما قلته وصلته ببعض الذى فهم منه «!»
إن رأيى الذى لم تزدنى الأيام به إلا اقتناعاً، أن علماء الدين لهم دور مقدر محترم واجب الوجود فى المجتمع المسلم، هو دور بيان أحكام الإسلام من حلال وحرام ونحوهما، ودور التوعية بالقيم الإسلامية الشاملة لجميع جوانب الحياة وشؤونها، بما فى ذلك الشأن السياسى بلا ريب، ودور الأمر بالمعروف والنهى - والنهى عن المنكر - إذا وقع ترك المأمور به أو الاستخفاف بوجوب اجتناب المنهى عنه، وهم فى هذا البيان لا يجوز لهم الخوف مما يخيف عامة الناس، ولا الرغبة فيما يطمع فيه طلاب الدنيا ومجدها ومالها، بل عليهم العمل بقول الله تعالى (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً) «سورة الأحزاب: 39».
ولا شأن لشىء من هذا بممارسة الحكم، أو تولى السلطة السياسية، أو الهيمنة على قرارات الدولة أو الحكومة، غاية ما فى الأمر أن العلماء مأمورون أن يقولوا للمحسن أحسنت ليشجعوه ويقفوا إلى جواره فى الحق الذى أصابه، وأن يقولوا لمن أساء أسأت، ويبينوا له وجه خطئه ويدعونه إلى الرجوع عنه، ويظهروا للناس الحق والباطل، والصواب والخطأ ليستقر الحق ويزهق الباطل، وهذه هى بعض معانى المرجعية الإسلامية التى يجب أن يقوم عليها نظام أى دولة إسلامية، أو يقوم على التسليم بها.
ولا يجوز أن يمنع نظام مثل تلك الدولة العلماء من أداء هذه الواجبات، ولا يجوز للعلماء أن يروا أنفسهم موظفين لدى الحكومات، يأتمرون بأمرها وينتهون عند نهيها، إذ هم فى الحقيقة لم يستحقوا لقب العلماء إلا لأنهم ورثة الأنبياء، فمن باع هذا الميراث العظيم الصالح بوظيفة عارضة لا تدوم فهو وشأنه، ولكنه لا ينبغى له أن يزعم - بعدئذ - أنه إلى علماء الإسلام العاملين ينتمى، وعليه أن يكتفى بالانتماء إلى طائفة الموظفين الحكوميين، وهى طائفة جليلة محترمة تؤدى أعظم الخدمات للناس وأهمها ولا يمكن الاستغناء عنها، بيد أن الدخول فيها شىء والدخول فى زمرة العلماء شىء آخر.
لقد كتبت منذ أكثر من ثلاثين سنة - بل سبع وثلاثين - أن رجال الدين لا يسيطرون على نظام الحكم فى الدولة الإسلامية، وأن مبادئ الإسلام وقيمه السياسية واجبة الاتباع وحدها، وآراء الخلق كلهم يؤخذ منها ويترك، ودرست فكرة «ولاية الفقيه» منذ ظهورها السياسى على يد آية الله خومينى، وقارنت بينها وبين مذهب الإمام الجوينى الشافعى، الملقب بإمام الحرمين، فى شأن الدور السياسى للعلماء، ووصفت رأيه بأنه «ركب متن المبالغة البالغة حد الشطط فى تصوير دور العلماء» (كتابنا: فى النظام السياسى للدولة الإسلامية، الطبعة التاسعة، دار الشروق 2008)، ولا يزال هذا هو رأيى فى المسألة جملة وتفصيلاً.
أضفت إليه فى الكلام الذى بثته قناة دريم أن العلماء لا يصلحون للإفتاء فى الشأن السياسى وأن الحكام لا يملكون المؤهلات الضرورية للإفتاء فى الشأن الدينى، ويجب أن يبقى الأمران فى الممارسة العملية منفصلين، وأن تبقى مرجعية الإسلام حاكمة للجميع، وأن العلماء عليهم أن يقفوا فى وجه الحكام الطغاة وأن يبينوا للناس حقائق الحياة موزونة بميزان الشرع، وكيف ينبغى أن تفهم فى ضوء الإسلام ولاأزال عند كل كلمة قلتها.
(3)
المسألة الثانية فى هذا الباب، هى مسألة كلامى فى إحدى الحلقات عن إخواننا الأقباط، وهو كله مما سبق لى نشره فى كتابى (للدين والوطن - نهضة مصر - الطبعة الثالثة 2009)، وحاصله أن العلاقة بين الأقباط والمسلمين علاقة أخوة أزلية لا تنفصم، يعروها بين حين وآخر فتور أو نفور أو خلاف أو خصومة، وهى أمور لا تخلو منها علاقة جماعة متميزة بجماعة أخرى فى الوطن الواحد.
وقلت - ومازلت أقول - إنه جد على هذه العلاقة أمور لا ينبغى أن تدوم، وقد وصفتها تفصيلاً فى كتابى سالف الذكر فلا مسوغ لإعادتها هنا، لكن الذى قلته، ولم يفهم على وجهه الصحيح، ولم تنشره «المصرى اليوم» فى تلخيصها المتقن، هو أن مسلك بعض المطبوعات القبطية الكنسية، الأرثوذكسية والإنجيلية معا، أصبح فوق ما يحتمله شعور المسلمين، وفوق ما يقبلون أن يوصف به رموزهم وشعائر دينهم وشريعتهم، وحذرت - وأنا هنا أكرر التحذير - من مغبة استمرار هذا المسلك، والاستهانة بالمشاعر الإسلامية، وبينت أن الذين يردون على ذلك الآن يردون بالحكمة والكلمة والموعظة الحسنة، لكن أحداً منا لا يضمن أن تنشأ ناشئة تختط سبيلاً أخرى، غير مأمونة، فى الدفاع عن دينها ورموزه وشعائره وشريعته، أو ما تظنه تلك الناشئة دفاعاً عن شىء من ذلك.
وليس هذا التحذير ـ كما فهم بعض المحبين الطيبين ـ تهديداً - معاذ الله - ولا هو تحريض - علم الله - لكنه نصح توجيه توجبه الأخوة فى الوطن، والناصح قد أدى ما عليه بنصيحته، وعلى المنصوح النظر والاعتبار، وله - قبل النصح وبعده - كامل الاختيار، ونحن لا نستطيع أن نمتنع عن نصح إخواننا فى الوطن خشية أن يساء فهم النصيحة، فإن إرضاء الله بأداء حق الأخوة الوطنية أحب إلينا من إرضاء بعض المحبين بالسكوت، غير الجاد، عن مثيرات القلق وبواعث الفتن.
(4)
المسألة الثالثة، التى اقتضت مزيد بيان، هى مسألة الجماعات السياسية الإسلامية فى الدولة الإسلامية.
وقد جرى ذكر هذا الأمر بمناسبة حديث فى إحدى الحلقات - أظنها الحلقة الثانية - عن مشروع جماعة الإخوان المسلمين: ما تحقق منه وما لم يتحقق.
وحاصل القول - عندى - فى مسألة العمل السياسى الإسلامى أنه دعوة إلى تمثل المرجعية الإسلامية فى المجتمع، والأصل أن تقوم بذلك الأحزاب السياسية التى تؤمن بتلك المرجعية وهى بالضرورة تؤمن بمدنية الدولة ومؤسساتها وقوانينها وقضائها وسائر سلطاتها، مع إيمانها بوجوب التزام الدولة فى كل ذلك بثوابت الإسلام، والعلماء يعرفون كم هى محدودة العدد، والوقوف عند قيمه التى تحتمل تطبيقات متعددة متنوعة فى العصر الواحد أو العصور المتتالية، وفى المكان الواحد أو الأماكن المختلفة، ولاتزال حكومتنا - بل حكوماتنا المتعاقبة - تمنع حزب الوسط الذى يدعو إلى هذا كله من العمل العلنى المرخص به، وكأنها تفضل العمل الممنوع على العمل المشروع لحاجة تدركها ولا نفهمها(!)
وكل ما تحتمله النصوص القرآنية والنبوية العربية المقررة لهذه القيم من أفهام واجتهادات وتأويلات فهو جائز مقبول لا يثرب فيه أحد على أحد إلا بمقدار ما يجرى من نقاش بين العلماء فى فهم الدليل ومدى صحة التأويل، والدور الذى يجب أن تقوم به الجماعات الإسلامية هو الدعوة والتربية والتوعية بأصول الإسلام وفروعه، والرعاية الاجتماعية المبنية على تعاليم الدين، فذلك أنفع للإسلام نفسه، وللعمل السياسى المهتدى بهديه، من اشتغالها المباشر بالسياسة الذى لم يجلب عليها إلا محناً متوالية، كلما خرجت من واحدة دخلت فى التى بعدها (!) ومهما يكن الرأى فيما يصيب هذه الجماعات وأعضاءها، فإن العافية أوسع لها، وأنفع لدعوتها، وأجلب للخير المطلوب، وأبعد من الشر المكروه، والله غالب على أمره عَلِمَ الناس أم لم يعلموا.
ولا يجوز أن تكون الدعوة إلى الإسلام سرية، ولا أن تتخذ العنف وسيلة لإكراه الناس على قبولها أو للانتقام من خصومها، ومن يفعل ذلك، أو يروج له، فإنه لا خلاف بين العلماء المعتمد عليهم فى خطئه، وهذا الخطأ يجب قياسه والمحاسبة عليه بمقدار القول أو الفعل بلا زيادة ولا نقصان.
(5)
لاحظت فى الحلقة التى ذكرت فيها المذهب الإباضى أن بعض الكلام قد دخل منى فى البعض الآخر، وهذا خطأ يجب علىّ تصويبه.
إن الملقب بأبى الشعثاء هو الإمام جابر بن زيد (21 هـ - 96 هـ) وهو أحد أئمة التابعين رواة السنة العلماء بالفقه، قال عن نفسه: «أدركت سبعين بدرياً فحويت ما عندهم من العلم إلا البحر» وهو يقصد بالبحر عبدالله بن عباس ـ رضى الله عنهما. والشعثاء هى ابنته التى كنى بها، وقد روى حديثه الشيخان البخارى ومسلم فى الصحيحين، وهو مؤسس المذهب وإن لم ينسب إليه بل نسب إلى عبدالله بن إباض، أحد تلامذة جابر بن زيد، وكان ينتدب للمناظرة مع المخالفين فى الرأى، فنسب الناس أصحابه إليه، وأصبح اسم الإباضية عَلماً على المذهب وعلمائه، وقد توفى عبدالله بن إباض قبل سنة (100 هـ).
وقد ذكرتُ الربيع بن حبيب وهو أحد تلامذة جابر بن زيد، وقد جمع كتاب المسند الذى يسميه الإباضية (الجامع الصحيح)، ولم أقف على تاريخ وفاته لكن قال الزركلى فى ترجمته إنه من أعيان المائة الثانية، أى القرن الثانى الهجرى، والإباضية ليسوا، على التحقيق، من فرق الخوارج.
(6)
إن الذى يتأمل حال الفكر الإسلامى فى زمننا هذا يجد نفسه أمام مدارس ثلاث أو مناهج ثلاثة، فمدرسة أصحابها يرون فصل الدين كله عن الحياة كلها، وحصره فى علاقة فردية بين المرء وربه هى علاقة تعبد - إن وجد - أو علاقة لا يعرف أحد كنهها لأنها خاصة بكل امرئ وحده دون سواه.
ومدرسة يرى أصحابها أن الدين مظهر قبل أن يكون جوهراً، وأن اللحية والجلباب والنقاب هى الأصول التى يفوز المتمسك بها ويخرج من زمرة المقبولين تاركها، ومدرسة ثالثة تدعو إلى جعل الدين أساس الحياة فى قيمه وجوهره وأخلاقه وتشريعاته، وترى الإنسان حراً مكلفاً بتحقيق مصلحته فيما وراء النطاق، المحدود جداً، الذى أتت الشريعة فيه بأحكام تفصيلية، وتحقيق المصلحة يقابله دفع المفسدة، وكلاهما من واجبات الدين ومهماته، بل إن من العلماء من قال إنهما أصل الدين كله، وهذه المدرسة ترى وجوب طاعة الله تعالى فيما أمر به أو نهى عنه، ووجوب الاجتهاد المستمر فى جلب المنافع ودفع المضار، وأن هذا الاجتهاد يتغير ويختلف الناس فيه، ولا ترى بذلك بأساً ولا تستشعر منه غضاضة.
وهذه فى نظرى هى مدرسة الوسطية الإسلامية التى نتمنى أن يفىء إليها أهل الإفراط والتفريط جميعاً، فيستقيم لهم أمر دينهم وأمر دنياهم معاً.
والحمد لله رب العالمين.