كل ما فعله عمر جابر أنه كشف عورات الجميع..
الوحيد الذي تصرف على نحو سوي.. ففضح من ورائه عشرات المرضى والفاسدين.
لم يكن ما فعله عمر استثنائيا، بل هو الإنسانية في أبسط صورها وأكثرها منطقية.. لكننا بحاجة لمراجعة كل شيء، في زمن شوشوا فيه كل شيء.
يقول لي صديقي الطبيب النفسي وهو يحلل صورة جماعية لمواطنين يلتفون حول قنبلة أثناء تفكيكها: راقب مكونات الصورة جيدا كي تفهم ما يجري.
هؤلاء عشرات الأشخاص الذين يتلصصون على عمل ضابط أثناء تفكيكه قنبلة مدمرة، كلهم لا يشعرون بالخطر ولا يتوقعون أن يصلعم.. كلهم في حالة إنكار متقدمة.. هناك فقط عامل نظافة بسيط يضع أصابعه في أذنه، خائفا من صوت انفجار القنبلة.
كل أطراف الصورة لديهم أزمة «وعي» و«إدراك».. فهم لا يتوقعون شرا أثناء انفجار قنبلة، أما الرجل الذي وضع أصابعه في أذنه فهو أقربهم للصحة النفسية.. لأنه- يادوبك- توقع أن هناك أذى ما ينتظره، ولو كان صوت انفجار مزعج!
أي نعم تبدو صورته مضحكة، لكنه الأقرب للسلامة النفسية، وسط حشود المنكرين المتعايشين مع الكارثة.
لو لم يكن عمر جابر حاضرا في مشهد مذبحة استاد الدفاع الجوي، لتحولنا جميعا إلى أركان صورة القنبلة المنتظر إياها.. مجرد كائنات مختلة.
ربما، لأسباب تتعلق بفساد المعايير وبتغليب أصوات القتلة ونوابهم الإعلاميين على صفحات الجرائد والشاشات، كنا سنتعامل مع المذبحة دون أن يجهر أحدهم بأنه يرى الملك عاريا.
ودون أن يتخذ أحد من أطراف اللعبة تصرفا يرضي ضميره وربه.
كل ما فعله عمر، أنه اتبع قناعاته الإنسانية، مدركا أن المبارة في غرضها النهائي مجرد «لعب».. ولا يتجاور «اللعب» و«الدم» في نفس المربع.
كل ما فعله عمر، أنه رد كل شيء لمرده الصحيح، وأدرك أنه لاعب كرة، ولا يمكن إغفال دور جمهوره الذي يسانده ويطوف وراءه الملاعب والمحافظات كي يشجعه. فكيف له أن ينكر الجميل؟ وكيف له أن يرقص احتفالا بهدف بائس على جثامين شباب وأطفال أبرياء؟
كل ما فعله عمر، أنه لم يخش في الحق لومة لائم ولا تهديدات قطع العيش من كبير فامبيرز نادي الزمالك.
كل ما فعله عمر..هو سلوك الإنسان السوي الطبيعي..غير المشوه.
حتى في حواراته التليفزيونية بعد الواقعة، كان يتحدث بهدوء وأدب وأخلاق ووضوح، وهو ما أربك خصومه الذين يفتقرون للأربعة معا: الهدوء والأدب والأخلاق والوضوح.
كل ما نحتاجه في مواجهاتنا التي لا تنتهي مع فامبيرز الرياضة والسياسة والإعلام والأمن أن نتمسك بما نحن عليه.. أن نتمسك بإنسانيتنا.. أن نكشفهم ونفضحهم.
واسانا عمر جابر، من حيث درى أم لم يدر في أنفسنا، وقال إن بين صفوفنا من لايزال يرى الحق حقا، فيرُزق اتباعه، ويرى الباطل باطلا، فيرزق اجتنابه.
أما بقية مكونات المشهد الدامي من داخلية، للاعبي الفريق، لمسؤولي النادي، للإعلاميين النهاشين في جثامين الشهداء.. فمصيرهم، شاءوا أم أبوا.. سيصل محله يوما ما حيث يستحق.. على رأس سجلات عار التاريخ.
ولا يستثنى من حاضري الجريمة، القيادة السياسية للبلاد التي انشغلت في فلاديمير بوتين ومراسم استقباله، ولم تلتفت إلى المذبحة ولو ببيان نعي ووعد بالتحقيق النزيه لتقديم القتلة إلى العدالة (وهو أضعف الإيمان).
شكرا عمر لأنك لم تلعب.. وشكرا لأنك استغنيت عنهم.. عن أموالهم وأضوائهم ورضاهم وجنتهم.. شكرا لأنك خسرتهم وكسبت نفسك.. وكسبنا أنفسنا معك.
شكرا عمر.. أنت كعصا سيدنا موسى التي كشفت زيف السحرة ولقفت ما يأفكون.. فكشفت وفضحت وأظهرت الحق حقا.