«البنا» فى الميزان (١٩)

محمد حبيب السبت 14-02-2015 20:47

هناك صفحات بيضاء فى تاريخ الإخوان لا يجب أن تُطمس معالمها، أو تغيب عن الذاكرة والوجدان، لمجرد أن هناك صفحات أخرى سوداء، قديما وحديثا، أو لأن هناك من اختلف مع الإخوان، أيديولوجياً أو فكرياً أو منهجياً أو حركياً، ولديه الآن منصة إعلامية أو فكرية أو ثقافية يطلق منها قذائفه ومدافعه.. فهذا أو ذاك جزء من تاريخ مصر.. ثم إن الموضوعية والإنصاف يقتضيان منا أن نتناول بحيادية تامة فكر ورؤية ما جرى من ممارسات مرتبطة بـ«البنا»، مؤسس الجماعة، فى فترة من أخطر الفترات فى تاريخ مصر والتى كانت تموج بأحداث جسام وتحولات كبرى على مستوى المنطقة والعالم.. لقد أصاب الرجل فى أشياء وأخطأ فى أشياء.. نفعل ذلك إبراء للذمة، وإحقاقا للحق، ووضعا للأمور فى نصابها الصحيح.. ولا نكتب هذه السلسلة بقصد إهالة التراب على الجماعة، أو لإضفاء شرف عليها لا تستحقه، وإنما لنقول للناس إن هذه الجماعة كيان بشرى لا يتميز بأى قداسة، شأنه كأى كيان بشرى فى هذا العالم، يصيب ويخطئ، يتقدم ويتأخر، ينتصر وينكسر، يتعافى ويمرض.

من الموضوعات التى اختلفت حولها الآراء والتقويمات، موضوع النظام أو التنظيم الخاص أو السرى الذى أنشأه «البنا» فى نهاية الثلاثينيات من القرن الماضى.. وغنى عن البيان أن الناس، سواء كانوا مع الجماعة أو ضدها، يتعاملون بحدة شديدة مع التنظيم الخاص، دون عقل مبصر ورؤية محايدة، وهذا الطرف أو ذاك مخطئ فى حق الجماعة والوطن والتاريخ.. إذ مما لاشك فيه أن إخوان التنظيم الخاص أبلوا بلاء حسنا فى الجهاد على أرض فلسطين.. ولا أحد يستطيع أن ينكر دورهم البطولى فى هذا الصدد، وأحسبه فى ميزان حسناتهم، كما أحسبه أيضا فى ميزان حسنات «البنا» نفسه الذى نذر نفسه للدفاع عن قضية فلسطين، وراح ضحية لها فى ١٣ فبراير ١٩٤٩.. لقد كان هناك تواصل بين النظام الخاص وقيادات الضباط الأحرار، جمال عبدالناصر، وكمال الدين حسين، وأنور السادات، وخالد محيى الدين، وغيرهم، إلا أن العلاقة لم تكن مستقرة على نحو ما.. وقد روى خالد محيى الدين فى كتابه «والآن أتكلم»، بداية اتصاله بالإخوان، فقال: «كنا فى نهاية عام ١٩٤٤، وكانت الحيرة تغلفنا جميعا بحثا عن طريق لنا ولمصر. وذات يوم مر علىّ عبدالمنعم عبدالرؤوف (إخوان) وعرض علىّ أن نلتقى بضابط آخر يحمل ذات الهموم ويبحث عن إجابات لذات الأسئلة، وأخذنى لأقابل جمال عبدالناصر.. وكان لقائى الأول معه. لكن عبدالمنعم عبدالرؤوف ما لبث أن طلب منى أن يعرفنا بضابط آخر.. وأخذنا إلى جزيرة الشاى فى حديقة الحيوان، حيث قابلت الصاغ محمود لبيب الذى عرفت فيما بعد أنه مسؤول الجناح العسكرى فى الإخوان المسلمين». ثم يقول: «ذهبت فى لقائى الأول ومعى عثمان فوزى (ماركسى)، وبدأ محمود لبيب يتكلم فى تؤدة ويتطرق إلى موضوع الدين دون تعجل، كان يعرف أن محركنا الأساسى هو القضية الوطنية، فظل يتحدث عن هذا الموضوع ولكن بنكهة إسلامية، وكنت ألح فى استخراج إجابات محددة عن أسئلة شغلت بالى طويلا، الوطن وكيف سنحرره وبأى وسيلة؟ وما هو الموقف من المفاوضات؟ وكان يجيب هو فى حذر وذكاء، لم يكن يريد أن يخسرنى بالإجابات التقليدية للإخوان، كان يقول: مصر سيحررها رجالها، وشباب القوات المسلحة هم قوتها الضاربة.. وكلام من هذا القبيل». استطرد قائلا: «اشتم عثمان رائحة الإخوان من الحديث، وقال لى ونحن عائدان من مقابلتنا: هذه جماعة خطرة وضارة، لكننى كنت سعيدا بالمقابلة، وقلت إن الوطن بحاجة إلى تضحية، والاتجاه الإسلامى يمكنه أن يبث فى الشباب روح التضحية».

وقد ذكر «محيى الدين» أن ثمة علاقة من نوع غريب بدأت مع جماعة الإخوان، وأنه تكونت مجموعة عسكرية تضم العديد من الضباط التى بدأت تعقد اجتماعات منتظمة فى البيوت، بعيدا عن الأماكن العامة.. «وفى هذه اللقاءات الإخوانية كان يحضر معنا جمال عبدالناصر وكمال الدين حسين وحسين حمودة وحسين الشافعى وسعد توفيق وصلاح خليفة وعبداللطيف بغدادى وحسن إبراهيم. كانت علاقة الإخوان بهذه المجموعة من الضباط تتسم بالحساسية، ففجأة وجد الإخوان أنفسهم أمام كنز من الضباط المستعدين لعمل أى شىء من أجل الوطن». (وللحديث بقية إن شاء الله).