السيسي و«نفسية العدو»

محمد طعيمة الثلاثاء 10-02-2015 21:33

أنا من عبدة الدولة، وعلى يقين أن المصريين، مع تعاقب معتقداتهم، لهم رب دائم، هو الدولة.. المُنظمة الراعية.
دولة.. مش «حاجة شبه الحاجة»، دولة، اخترعتها أنا كمصري، وعلمت البشرية بيها قواعد الحياة. دولة تدرك مهامها: تسيير أموري، توقع ودراسة مشاكلي، والتخطيط.. أما للقضاء عليها، أو لتحجيمها.
أنت حين تذهب لمُعالج بصداع طارئ، فيفتح دماغك، ويدمر خلايا مخك، فهذا ليس بطبيب، بل سارق للمهنة، قاتل، خارج عن القانون.
وحين يضبطني المُكلف بتطبيق القانون، بمخالفته، فيقتلني، فهذا ليس بشرطي، بل سارق للمهنة، قاتل، خارج عن القانون.
الألتراس مشكلة كونية، لم ينج منها مجتمع، متقدم.. أو نامٍ.. أو متخلف، وهم لدينا أرحم كثيرا من أقرانهم الأوروبيين. وهم، كما أي ظاهرة مجتمعية، تحتاج لرؤية «دولة».. لا قتلة. هم جزء رئيسي من مستقبلنا، وخزين جيشنا، ومن الناشطين خارج الصناديق المهترئة.
مشكلة السيسي، أنه ما زال بذات نفسية القناص، رجل المخابرات، وهي في مجاله.. بطولة تُقدس، لأنه يتعامل مع نوعية بشر واحدة.. عدو، له ولنا، مهمته تدميره. لم يعي بعد أنه انتقل إلى فضاء عام مختلف، قانونه الطبيعي.. التعدد، الاختلاف، حتى حول القضايا المصيرية، وأن هذا لا يعني «العداوة»، ما دمنا ملتزمين بقاعدة أن لنا وطنا واحدا، ننتمي إليه، ونخضع «كلنا» لقوانينه. ولم يستوعب بعد أننا نمر بمرحلة تاريخية مختلفة، متقلبة، يُعاد فيها تشكيل الفضاء العام، وفق قواعد جديدة، وتنوع مفتوح، لم يعد يقبل بأن يُحكم بذات الأدوات القديمة.
يحلم السيسي بأن ينظر له التاريخ كالتجربة الثالثة للدولة المصرية الحديثة، الأكثر نضجا من محمد على وجمال عبدالناصر. لا يعيب الأخير سوى غياب الحياة السياسية عن عصره، فحتى ما كان يوصف بـ«غزواته الخارجية»، في أفريقيا واليمن، أعيد الاعتبار لها. مشكلته أنه كان يعمل «لـ».. وليس «بـ» الشعب، لهذا كان انقلاب السادات سهلا على تجربته.
عولت مثل كثيرين على رجل الدولة الآتي من مدرسة الوطنية المصرية، ينهض «بـ» طاقات شعبه لتنطلق، وينسق بينها، وفق دستور ما بعد «30 يناير، 25 يونيو».. «عيش، حرية، كرامة إنسانية»، وانتخبت حمدين صباحي كي لا يأتي السيسي إلهاً، فلم يعد جائزاً أن نقبل بالتنمية والبناء بدون حريات، فتجربة ناصر تقول إن ما نبنيه لن يدوم.. ما لم تطلق حرية المصري نفسه، انتهى عصر هذه النوعية من الزعماء، خلصت في زمنها.
وحتى في سياق «الاستبداد»، هناك فارق نوعي وكمي بين عهدين مثل عبدالناصر ومبارك، ولدينا مقالان لقطبين متنافرين، فهمي هويدي ومحمد السيد السعيد، للفارق بين منظومتي أمن العصرين، هو «العقيدة»: خدمة الشعب.. مش ركوبه. مثلاً، ترصد شهرية مجلة الشرطة الستينية انتهاكات جهازها، ومن ضبطها وشهد عليها هم عناصرها، بالطبع هي لا تشير، مطلقا، لملف الانتهاكات السياسية، التي تظل جريمة. شرطة السيسي فاقت كل ما سبقها وحشية.
لا أعرف أحداً من «الكتلة النشطة»، ممن راهنوا على السيسي لم يخب أمله فيه.«الكتلة النشطة».. بدونها لن ينجح، مهما فعل خارجياً، فهي المؤهلة للتفكير خارج الصندوق، وتوجيه «العامة»، وتطويرهم. لن تفيده «الكنبة»، لأنها حين الصدام ستلتزم مقاعدها، وهي أصلا تربت على أن تنتظر من يفكر ويفعل لها.
لن يصبح السيسي التجربة الثالثة، الأنضج، في تاريخنا، مالم يخلع نفسية المقاتل و«العدو»، الذي عليه قتله. وينضبط، كرجل دولة، بتعددية الفضاء العام، ويدرك أن مخالفيه، حتى أكثرهم شططاً، والألتراس، حتى أكثرهم تمردا، هم من كلف وطنيا، من قبل أن يموت من أجلهم، ومُكلف الآن بأن يغادر تاريخه «النفسي» السابق، ليجذبهم إلى مشروعه، إن كان لديه مشروع.