هناك فئة من عظماء الأدب والفن والعلم يعرفهم عامة الناس لاشتغالهم بالعمل العام، وأخرى لا يعرفهم سوى الصفوة، منهم محمد كامل حسين، الذى كتب العديد من المراجع الكبرى، ورواية واحدة هى «قرية ظالمة» عن المسيح عليه السلام حسب القرآن الكريم، وهذه الرواية الفريدة فى الأدب العربى والعالمى تدور أحداثها فى يوم واحد، هو يوم صلب المسيح فى أماكن مختلفة من العالم، أو القرية الظالمة، وذلك بأسلوب المونتاج المتوازى فى السينما.
وقد حلم بإخراجها عدد من المخرجين، مثل توفيق صالح وروبرتو رو سيللينى.
وهناك فئة من الأفلام «الدينية» تستخدم قصص كتب الأديان والعقائد للتبشير بهذا الدين أو تلك العقيدة، وأخرى لجذب الجمهور وسرد أحداث غير عادية وإبهاره بالديكورات والأزياء التاريخية، وهى الفئة الغالبة، وثالثة من فئة قليلة تدعو الجمهور إلى التأمل والتعمق، مثل الفيلم الإيطالى «المسيح حسب إنجيل متى» إخراج بازولينى عام 1964.
وقد جمع الفيلم الفرنسى «قصة يهوذا» إخراج الجزائرى رباح عمير - زاميش، الذى عرض فى برنامج «الملتقى» فى مهرجان برلين بين التعبير عن المسيح حسب القرآن الكريم، لأول مرة فى السينما، وبين دعوة الجمهور للتأمل والتعمق.
ولد رباح عمير - زاميش عام 1966 فى بنى زيد بالجزائر، ودرس العلوم الاجتماعية، وأخرج أربعة أفلام طويلة فى عشر سنوات هى: «ويش ويش ما الذى يجرى؟»، 2002 الذى عرض فى ملتقى برلين، و«العودة إلى الوطن» 2006، و«عدن» 2008، و«أغنيات الماندرين» 2012. وقد كتب سيناريو «قصة يهوذا» كما قام بتمثيل دور يهوذا، بينما قام نبيل جيوانى بتمثيل دور المسيح.
ومِثل فيلم بازولينى يقوم بتمثيل الأدوار رجال ونساء من العرب، ما عدا أدوار الرومان، فالمسيح فلسطينى، ولد وعاش فى فلسطين، وعيونه سوداء وشعره أسود، ويميل لون بشرته إلى السمرة، وليس مسيح هوليوود الأبيض ذا العيون الزرقاء. ومِثل فيلم بازولينى أيضا يعمد المخرج إلى أسلوب شديد التقشف فيما يتعلق بالعمارة والديكورات والأزياء، وكذلك استخدام الألوان والظلال، حيث قامت بالتصوير إيرينا لو بيتشانسكى، وعبرت بقوة وبساطة وجمال عن مبنى كل مشهد ومعناه، ويتحقق التأمل والتعمق بالاستخدام الحذر لحركة الكاميرا والموسيقى والإيقاع المحكم المتدفق بسلاسة فى 93 دقيقة.
لا يروى الفيلم حياة المسيح منذ ميلاده العذراوى، وإنما مع بداية ثورته على سيادة منطق السوق والجشع وحب الذهب. والعديد من أحداث الفيلم مستمدة من الوقائع المعروفة عند أغلب الطوائف المسيحية، ولكن الاختلاف حول دور يهوذا وحول الصلب. فالثابت عند المسيحيين أن يهوذا، وهو من أصحاب المسيح أو الحواريين، قد خان المسيح بثلاثين قطعة من الفضة، وأبلغ الرومان الذين كانوا يحتلون فلسطين عن مكانه، ولكن فيلم عمير - زاميش يدافع عن يهوذا ويثبت براءته، وأنه عشية القبض على المسيح كان يهوذا يعانى من آثار محاولة لقتله طعناً بالسكين، لأنه نفذ أمر المسيح بحرق كل ما تم تدوينه من أقواله. ومن هنا كان عنوان الفيلم «قصة يهوذا»، والمشهد الأول نرى فيه يهوذا يصعد الجبل حيث يتعبد المسيح ويصوم 40 ليلة فى أطلال بيت مهدم، ويحمله على كتفيه وينزل الجبل وهو يمازحه بحب وعاطفة مشبوبة. وفى النهاية، عندما يردد الناس أن المسيح قد قتل، نرى يهوذا يبكى بدموع غزيرة من شدة الحزن.
المسيح عند مخرجنا قام بثورة تعارضت مع مصالح الإمبراطورية الرومانية من ناحية، ومصالح كهنة المعابد اليهودية من ناحية أخرى. ولا يعبر الفيلم عن الطرفين على نحو أحادى كما جرت العادة، وإنما نراهم يحترمون المسيح ولا ينكرون نزاهته وأخلاقه الحميدة ودعوته للحب والسلام. ولكن، وكما يقول الحاكم الرومانى وهو يأمر بصلبه: «عندما يكون الاختيار بين الفوضى والظلم، فإن الظلم هو الأفضل».
وما يجعل الفيلم عن المسيح حسب القرآن الكريم أننا لا نرى ما حدث فى طريق الآلام ولا الصلب، وإنما نسمع على شريط الصوت أصواتا تردد فى هلع: «لقد قتل النبى». والمشهد قبل الأخير داخل مقبرة خالية بالأسود والأزرق مع شعاع بسيط من الضوء، ويدخل المسيح ويستلقى ويشكر الله قائلاً: «لقد كنت معى دائماً» ثم يموت. وفى المشهد الأخير نرى المسيح يخرج من بين الزرع الأخضر ويواصل الحياة. لقد أنقذه الله من العذاب والقتل على أيدى الطغاة، وما صلبوه وما قتلوه ولكن شُبّه لهم، وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا.