فاز اليسار الراديكالى فى الانتخابات اليونانية ليفتح الباب على مصراعيه أمام مستقبل لا يعرف أحد على وجه التحديد ملامحه بالنسبة لليونان بل لأوروبا. فرغم كثرة التكهنات والسيناريوهات المرجحة، فإن المتيقن الوحيد هو أن أحداً لا يعرف بالضبط مدى تأثير ما جرى فى اليونان على سياساتها الاقتصادية ولا على باقى دول الاتحاد الأوروبى.
ففى الانتخابات اليونانية التى أجريت مؤخراً، فاز ائتلاف «سيريزا»، بزعامة ألكسيس تسيبراس، الزعيم الشيوعى السابق، فأزاح لأول مرة الحزبين الرئيسيين اللذين حكما اليونان منذ سبعينيات القرن الماضى. و«سيريزا» اختصار لعبارة يونانية تعنى «ائتلاف اليسار الراديكالى»، وهو ائتلاف مكون من 13 حزباً وجماعة يسارية، فاز على أساس تعهدات بإنهاء سياسات التقشف التى فرضها الاتحاد الأوروبى على اليونان، مقابل مساعدات اقتصادية، لإخراجها من أزمتها الاقتصادية الطاحنة.
لكن الناخب اليونانى، الذى عانى فى السنوات الأخيرة من سياسات التقشف تلك، والتى تمثلت فى الخفض الهائل للإنفاق الحكومى على الخدمات الرئيسية، فضلاً عن رفع الضرائب، قال كلمته الحاسمة رفضاً لتلك السياسات. وقد انعكس ذلك على تشكيل الحكومة الائتلافية، إذ اختار «سيريزا» لتحقيق الأغلبية حزباً يمينياً لا يتفق معه فى شىء سوى معاداته القوية لسياسات التقشف، وهو الأمر الذى يعنى أن الأولوية الأولى للحكومة اليونانية الجديدة ستكون مواجهة السياسات الاقتصادية الأوروبية المفروضة على اليونان، مع السعى فى الوقت ذاته للبقاء فى الاتحاد الأوروبى، كما يرغب حوالى 70 بالمائة من اليونانيين. وتحقيق الهدفين، أى رفض التقشف والبقاء فى الاتحاد الأوروبى، هو المعضلة الرئيسية التى تواجه تسيبراس.
وربما تكون تصريحات تسيبراس فور إعلان فوزه هى الأكثر دلالة على مغزى الزلزال اليونانى. فهو قال إن «اليونان تقلب الصفحة، تاركة وراءها التقشف المدمر والخوف والسلطوية.. تترك وراءها خمس سنوات من الذل والألم». فاليونان أمة ذات حضارة عريقة صارت جريحة بسبب أوضاعها الاقتصادية التى اضطرتها اضطراراً لقبول السياسات الأوروبية التقشفية التى خلقت «الذل والألم» الذى أدى لاقتلاع الحزبين الرئيسيين من حكم البلاد فى الانتخابات الأخيرة. وقد تعهد تسيبراس بـ«إعادة كتابة» شروط الاتفاق الذى وقعته بلاده فى عام 2012 مع الاتحاد الأوروبى.
والاتفاق سينتهى العمل به فى 28 فبراير الجارى، الأمر الذى يعنى أن تبدأ فوراً المفاوضات مع الحكومة اليونانية الجديدة لمد العمل به. وفى تقديرى، فإن طبيعة الاتفاق الجديد ستتخطى فى تأثيرها حدود اليونان. فإذا ما قبل الاتحاد الأوروبى مطالب «سيريزا» برفض التقشف، فإنه سيفتح الباب لمطالب مماثلة من إسبانيا وإيطاليا، وربما من البرتغال وأيرلندا وبولندا أيضاً فى المستقبل المنظور.
أما إذا رفض الاتحاد الأوروبى مطالب «سيريزا» على نحو يدفع اليونان للخروج من الاتحاد، تكون تلك سابقة خطيرة تفتح الباب لخروج دول أخرى وانهيار فكرة الاتحاد الأوروبى نفسها. ويرى بعض المراقبين أن ما يجرى فى اليونان قد يمتد تأثيره للداخل الألمانى إذا ما نجح «سيريزا» فى رفض «الأرثوذكسية المالية» التى تتبناها أنجيلا ميركل وفرضتها على اليونان. ولم يتضح بعد تأثير كل ذلك على صعود الأحزاب اليمينية الفاشية فى أوروبا والتى ترفض هى الأخرى السياسات التقشفية من منظور شعبوى.
لكن الخبر الذى لفت انتباهى نهاية الأسبوع جاء من خارج أوروبا. فبعد سنوات من سياسات مالية واقتصادية عبرت عن مواقف خصومه لا عن موقف حزبه، أعلن باراك أوباما «نهاية التقشف المجنون»، وقال إنه سيتقدم للكونجرس بميزانية تتضمن مزيداً من الإنفاق الحكومى!