كلنا أطلقنا مجازاً على ما حدث فى 25 يناير 2011 ثورة، واكتفينا بذلك دون أن نتأمل فى المعنى الحقيقى لكلمة ثورة التى تعنى حدوث تغير جذرى فى الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتغير القيم الحاكمة للمجتمع على جميع المستويات، وكذلك إعادة ترتيب وتنظيم العلاقات بين المؤسسات والشعب فى إطار عقد اجتماعى جديد ينشأ فى مناخ صحى يدرك به الحاكم أنه خادم صغير عند شعب كبير، وتتآزر كل المؤسسات وأجهزة الدولة لخدمة المواطنين، وتذليل الصعاب من أجل تحسين حياتهم والنهوض المستمر بهم.
لا يعنى هذا التقليل من قيمة ما حدث فى 25 يناير وما أتبعها لأنه سيظل حدثا إنسانيا فريدا كسر الناس فيه حاجز الخوف وأدركوا أنهم يستطيعون إسقاط حاكم مستبد إذا قرروا ذلك واجتمعوا عليه، صدّق المصريون أنفسهم وتيقنوا من قدرتهم على الفعل وفرض إرادتهم على الجميع وكسروا جلاديهم الذين لاذ بعضهم بالفرار، وتلون بعض آخر، وكمن فريق ثالث، ولم يعد هؤلاء جميعا إلا حين ارتفع صوت الثورة المضادة وبدأت حملة التطهر والتلميع المبتذل لمجموعة من القتلة وسارقى قوت المصريين، وإعادة تقديمهم للناس كمظلومين وضحايا!
لذلك إذا أعدنا قراءة المشهد الحالى بمعطياته المختلفة سندرك أن ما حدث بكل إنصاف وبلا جلد للذات هو إرهاصات الثورة، وإذا لم تكن قابلا هذا التوصيف دعنا نقل إنها ثورة بدأت لكنها لم تكتمل حتى الآن ومازالت تصنع التراكم بمرور الأيام حتى تصل يوما ما ليتطابق التوصيف مع منجزات الواقع والنتائج النهائية.
قُم الآن باختزال أحداث أربع سنوات مضت منذ لحظة البداية فى 2011 حتى الآن، وتعامل معها على أنها جولات ومحطات ستتبعها جولات ومحطات أخرى لن تتخيل إمكانية وقوعها، ولكن إذا عجز خيالك عن التحليق فى هذا الأفق فاسأل نفسك: هل كان هناك أحد فى 2010 يعتقد إمكانية وصول الإخوان للسلطة عبر صناديق انتخابات نزيهة؟ وهل كان أحد يتخيل فى نهاية 2012 إمكانية سقوط حكم الإخوان؟ وهل كان أحد يتخيل قبل 2014 أن نظام مبارك ورموزه ومخبريه وصبيانه سيخرجون على الشاشات ليعطونا دروساً فى الوطنية، ويتهموا الثوار بالعمالة وتدمير الوطن بعد أن بناه هؤلاء اللصوص والقتلة؟
لم يتخيل أحد فينا كل ما مضى من أحداث غريبة وغير متوقعة، لذلك فقياساً على هذا النسق يمكنك الآن تخيل أى شىء قادم لأن الأرض لم تستقر حتى الآن تحت أقدام أحد، ومازال التدافع والصراع مستمراً داخل السلطة وخارجها، ومازال المواطن- الذى هو عماد هذا الاستقرار المنشود- غير راض عن الجميع، ويشعر بأن الكل خذلوه ولم يصنعوا ما يغير حياته للأفضل وينهى معاناته وبؤسه.
شرارة الثورة التى اشتعلت فى 2011 مازالت مستمرة تحرق كل يوم مزيداً من الحطب، سواء كان الحطب من خصومها أو حتى ممن انتسبوا إليها يوماً، ثم تنكبوا الطريق وتلونوا وانضموا لصفوف الثورة المضادة، الثورة محرقة لن تنطفئ نارها قبل أن تحرق كل ما يعوق المستقبل، لذلك فالبشرى لمن أصابهم اليأس والوهن أن القادم أفضل رغماً عن الجميع.
الأطفال الذين كانوا بالمرحلة الإعدادية فى 2011 يتأهبون الآن لدخول الجامعة ويحملون أحلام جيل واعد وجديد قادم بعزم ووعى لا يمكن تزييفه ولا الالتفاف عليه، أمامنا جيل يعقبه جيل لا يعنيه كل موجات التطبيل، ولا يرضى محاولات الإخضاع والقهر، ولا يوجد لديه ما يخسره لأنه يعلم أن مستقبله مرهون بنجاح الثورة وحدوث التغيير الجذرى الذى يمهد له سبل الحياة الكريمة فى هذا الوطن. الثورة تنفى خبثها، وتلهب كيرها، وتنتقى أبناءها من الثابتين على المبدأ والمتمسكين بالحلم والقابضين على الجمر، تذوب الآن الانتماءات وتسقط الشعارات، وتبقى الانحيازات الواضحة تحدد الوجهة والاتجاه، أينما تكونوا فولوا وجوهكم نحو الحرية، الحرية قدر أصاب هذا الوطن ولا فكاك منه، نحن لا نتوهم ولا نتخيل بل بداخلنا يقين قطعى بأن الغد يحمل البشريات والفرحة باكتمال الحلم، قد يأخذ هذا شهوراً أو سنوات أو عقوداً لكنه حتمى الحدوث، وإن غداً لناظره قريب.