اليمنُ- الوحيد حالياً والسعيد سابقاً- تائهٌ في بحار الفوضى، بلا عنوان يستدل عليه، وبلا ملاح يقود سفائنه في هذا التوهان الكبير.
الحكومة تقدمت باستقالتها إلى رئيس الجمهورية، ورئيس الجمهورية تقدم باستقالته إلى البرلمان، العاصمة الشمالية صنعاء تحت سلاح الحوثيين، والعاصمة الجنوبية عدن ترتفع فيها أصواتُ الاستقلال.
الجامعة العربية- تحت قيادة أمينها العام الدبلوماسى المخضرم، المصرى المولد، القطرى المذهب، الدكتور نبيل العربى- تبدو عاجزة عن أي حركة، تبدو جثمانا أقرب إلى الموت منه إلى الحياة، وكأن هذا هو الدور المخطط- سلفاً- الذي جىء بالدكتور نبيل العربى ليختم به حياته المهنية، وليختم بعض فصول المخطط الكبير.
القيادة الحوثية، مثلها مثل قيادة داعش، مثلها مثل قيادة جبهة النصرة، قيادة وحشية غير مستأنسة، غير متطبعة بطباع التواصل الطبيعى مع مجتمعها في الداخل، أو مع شركاء الإقليم، في ظل علاقات غامضة مع القوى الدولية التي تلتزم الصمت المريب، وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبى، حيث إن ما يشغلهما هو إرهاب القاعدة التي تتمركز في اليمن، أكثر مما يشغلهما الصعود الحوثى الذي يضع اليمن- بأكمله- على حافة حقبة غير مسبوقة من الفوضى والاقتتال والانقسام.
والسؤال: لماذا يُتركُ اليمنُ وحيداً؟!
والجواب أن اليمن- في هذه اللحظة- يمثل وضعاً جديداً، ليس لأحد مصلحة في أن يتدخل فيه بصورة مباشرة، خاصة أنه مرشح لأن يتحول إلى مستنقع كبير من دخله لن يخرج منه آمناً، وهنا يمكن الإشارة إلى ما يلى:
أولاً: بالنسبة لمصر، ما يحدث في اليمن اليوم ليس ما حدث بها عام 1962م، يعنى ليس ثورة قوى حديثة على قوى قديمة، وهو السبب الذي دفع بالرئيس عبدالناصر لإرسال قوات مصرية لدعم الثوار في مواجهة حكم الأئمة الزيدية الذي ألبس اليمن أثواب التخلف ألف عام متواصلة، فضلاً عن أن مصر لن تبادر بموقف في اليمن في مثل هذا الظرف الذي يغيب فيه الحد الأدنى من التماسك العربى، ناهيك عن غياب الحد الأدنى من التماسك داخل اليمن، فمصر- في هذه اللحظة- مثلها مثل غيرها، لا تعرف إلى من تتوجه بالخطاب في اليمن، هو بغير قائد، وبغير حكومة.
ثانياً: بالنسبة للمملكة العربية السعودية، فإن الأولوية هي تثبيت الوضع الداخلى، بعد الانتقال الهادئ للسلطة إلى الملك سلمان، بعد رحيل الملك عبدالله، ففى هذا التوقيت العصيب فإن المملكة يعنيها- بالدرجة الأولى- النجاح في اختبار نقل السلطة، بما يكفى لإثبات تماسك العائلة، وبما يكفى لإثبات تماسك المملكة خلف قيادة آل سعود، وبما يكفى لإقناع العالم بأن المملكة- إلى حين- خارج موجة اهتزاز الدول، وخارج معادلة تساقط الأنظمة، وخارج أحزمة الزلازل في الشرق الأوسط.
ثالثاً: العلاقات المصرية- السعودية تمر بفترة وفاق هادئ، سواء في مواجهة النفوذ الإيرانى، أو في مواجهة الجفاء الأمريكانى مع البلدين في وقت واحد، أو في ترصد المنافس التركى، أو في ترويض الجنوح القطرى، أو في مواجهة التفوق الشيعى، أو في مواجهة التطرف السنى، أو في صد الهجمة الإخوانية التي ما كان لها أن تنكسر دون اتفاق مصرى- سعودى.
رابعاً: هذا المحور المصرى- السعودى لدى كل طرف فيه تحديات داخلية جسيمة، وهناك كوابح كبيرة على حركة كل منهما في الإقليم، ولكن اليمن سواء بالنسبة للسعودية- بدرجة أكبر، ثم مصر بدرجة لا تقل أهمية، هي في نطاق الأولويات الاستراتيجية العليا لدى كل من الرياض والقاهرة.
خامساً: صحيح أن البلدين لن يكررا خطأ المواجهة التي وصلت إلى حرب باردة بينهما أو حرب بالوكالة في جبال اليمن، في النصف الأول من الستينيات، ولكن الصحيح كذلك أن كلاً من القاهرة والرياض لا تملك أي منهما رؤية جاهزة، ولا حلولاً سريعة، ولا مبادرات فورية، وربما تفضلان التمهل والانتظار حتى تنكشف الأوراق المخفية سواء في داخل اليمن أو خارجه.
سادساً: يظل الأمن القومى السعودى أولوية لدى القاهرة- الرياض، خاصة أن موقع اليمن الاستراتيجى يجعل المخاطر المتوقعة تتجاوز الأمن القومى السعودى إلى الأمن القومى العربى، في هذا الإطار من الوارد أن تتخذ المملكة العربية السعودية إجراءات دفاعية، ومن الوارد أن تتقدم مصر بالمساعدات الفنية الممكنة، من مشورة، إلى مناورات عسكرية مشتركة، إلى تجريب نوع جديد من التعاون الثنائى بين البلدين، يكون نواة عمل لإعادة إحياء ما يمكن إحياؤه من العمل العربى المشترك.
سابعاً: إيران- هذه المرة- تعلم أنها تلعب في أخطر الملاعب، وتعلم أن العرب- مهما كان حالهم من الضعف- لن يقبلوا هذا الحصار الإيرانى للسعودية من كل الاتجاهات، ومن باب أولى لن يقبل العرب حصار السعودية من حدودها الجنوبية، وبقوات شيعية، وبسلاح إيرانى، لهذا ليس من المتوقع أن تخرج إيران عن سياسة الصمت الماكر، ولن تحيد عن الغموض البنّاء، مادامت مطمئنة إلى أن الحوثيين لايزالون هم القوة الفاعلة على الأرض، ولن تتغير السياسة الإيرانية الحالية إلا في حالة تغير الموازين بما يؤذى حلفاءها الحوثيين أذى كبيراً.
ثامناً: ما ينطبق على إيران ينطبق على كل من قطر وتركيا، وهما يقفان خلف كل القوى التي تناوئ المملكة العربية السعودية، وفى مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين وحلفاؤها من بعض القبائل. هي نفس القوى التي تدعمها قطر وتركيا في كل من ليبيا وسوريا وكذلك في تونس.
تاسعاً: يبقى وجود الرئيس السابق على عبدالله صالح طرفاً فاعلاً في المعادلة الداخلية- المتحركة، والتى لا تثبت على حال- عنصر أرق لكل الأطراف الإقليمية، فهو خرج من السلطة باتفاق- برعاية خليجية- ولكنه أعاق سلطة خليفته المنتخب- بوفاق داخلى ودعم خليجى وترحيب دولى، ثم- وهذا هو الأسوأ- يتحالف- عبر نفوذه في الجيش- مع الحوثيين.
عاشراً: سوف يكون على الجميع أن يضبط إيقاعه على إيقاع واشنطن، ولكن ربما تأتى الرياحُ الداخلية بما لا تشتهى سفن الأمريكان، وساعتها سوف يكون لكل حادث حديث.