فاتن حمامة لن تقرأ هذا المقال!

مفيد فوزي الجمعة 23-01-2015 21:41

آخر مرة سمعت صوت أيقونة الفن في مصر، فاتن حمامة، كان صباح يوم 7 يناير 2015، كانت- كما اعتادت دائماً- تهنئنى بالعيد، كان صوتها عفياً ويقظاً ولديها «الرغبة» في الكلام الذي أتبادله معها على التليفون الأرضى، الذي يعرف رقمه المقربون من «تونة»، اسم الدلع الذي يخاطبها به الأصدقاء، وعرج الكلام إلى موضوع التدهور الأخلاقى في المجتمع، قالت- رحمها الله- «البلد ماشية وبتتحسن» ثم تقول: «وسط الهيصة محدش بيفكر نرجع نحترم بعض» ثم يرتفع صوتها قليلاً «اكتبوا قولوا ذيعوا واتكلموا». وأعترف بأن كلام سيدة الشاشات كان موحياً بكتابة مقال عنوانه «لا أحد يهتم في المدينة»، وأظن أن فاتن حمامة عبر السنين الطويلة التي اقتربت فيها منها من أكثر الفنانات اهتماماً بالشأن العام، فما من مرة أجريت معها حواراً إلا وكان الشأن العام حاضراً، فهى تحمل خوفاً بلا حدود على «البلد»، ومعنية بأحوال «البلد»، وكانت صباح 30 يونيو سعيدة بإزاحة الغمة عن «البلد»، كانت تقرأ الصحف ظهراً وليس صباحاً كما اعتاد الناس، لأنها تخشى رحيل صديق يلون اليوم بالحزن من ساعاته الأولى، تمنت فاتن حمامة أن تساهم الأفلام في شرح أبعاد الصورة لسلوكيات لم تعرفها مصر على امتداد تاريخها ولن تفقد الأمل، لأن بهاء- تقصد أحمد بهاء الدين- قال لها يوماً «إن للشعوب انكسارات وبعدها تهب من رقدتها».. و.. وإلى المقال الذي لن تقرأه فاتن حمامة، أورده في نقاط محددة:

■ قلم الكاتب وعدسة المذيع وفيلم الممثل وقصيدة الشاعر ومؤلف المسرح وشاعر الأغنية ونوتة الموسيقار، ما قيمة هذه الأدوات إن لم تتجه صوب نهضة «البلد»، ما وزن هذه الإمكانيات إن لم تحتشد لاقتلاع أحجار التخلف والجهل من طريق حياتنا، لم يخطئ الكاتب كامل زهيرى يوم قال: «تُقصف الأقلام إذا فقدت الرشد والقدرة على التغيير»، من هنا أشعر أن منح الوعى في العقول هو ألف باء الطريق إلى الرقى والتقدم، صحيح لن يتغير شعب بين يومٍ وليلة، ولكن «تصويب» طرق التعامل لتحسين الصورة.. ضرورى.. هذا مقالى، واحد من 620 «عمود صحفى يومى»- حسب إحصاء- والمهم بكم عمود يتأثر القارئ و«يؤثر» في سلطة وظيفتها مقاومة الهدر في الوقت، والهدر في الأخلاق، والهدر في سلوكيات أولادنا؟.. إن أمام «البلد» تلالاً من المشاكل، بيد أن على رأسها القضية المعنوية وهى «تدنى السلوكيات».

■ قبل أن يستفحل الأمر ونبكى على اللبن المسكوب، ونعض صوابعنا ندماً، ونكيل التهم لبعضنا البعض، وندخل حلبات التنظير وفضائيات الترميم المؤقت بعد الفاصل.. قبل كل هذا لابد من «نوبة صحيان»، حسبما المصطلح العسكرى لوقف التدنى في السلوكيات والألفاظ في المجتمع المنشطر، فقد اعتاد أفراد المجتمع بعد يناير عمل أي شىء في الوقت الذي يبغونه، وبالطريقة التي يريدونها دون رادع ذاتى أو خوف من قانون، اعتاد المجتمع فوضى غير مسؤولة وبلطجة غير مسبوقة وإسقاط القيم تحت النعال، مجتمع الغاب، حتى في الغابة تقاليد بين الحيوانات.

■ لابد- وإن كنت أكره هذه الكلمة من فرط ابتذالها- من عودة «الأخلاق الحميدة» للمجتمع، وهى في أبسط الكلمات «احترام الصغير وتوقير الكبير ورعاية المرأة»، الناس أرهقها أخلاق هذا الزمن الغشيم وندالات الأندال، ولديها حنين جارف إلى «التهذيب» و«التحضر»، الذي صار في ندرة اليورانيوم، وأصبح الإنسان المهذب الذي يستأذن ويدق على الباب ويتكلم هامساً واحداً من «أعاجيب الدنيا السبع»، أصبح من يتفق أو يختلف بحضارة «عملة نادرة» اختفت كالمليم النحاس، فما عاد أحد في المدينة عاكفاً على الاهتمام برصد هذه الظواهر أو حتى تحجيمها وإيجاد الحلول.

■ جاءت ثورة يناير ترفض «السلطة الأبوية»، أي شيطان دفعها لهذا الإثم؟ لقد مهد الآباء والجدود من قبلهم الأرض للإصلاح والتغيير، لا الهدم والحرق والتدمير، وليقف واحد من الصفوف ليقول لى: أي إضافة أضافتها «يناير» غير أنها حولت الناس إلى زعماء.. أريد إضافة أخلاقية ثورية للمجتمع، لقد «انهارت» أعمدة المجتمع بعد الثورة واختطافها وعبثِ حماس والهروب من السجون، لقد كانت مصيبة المصائب رفض السلطة الأبوية داخل البيت إلى حد عقوق الأبناء وتوحش الألتراس وانهيار منظومة القيم والإفراج عن «أوبئة» غير أخلاقية كانت مسجونة داخلنا ولا ندرى، وهبّت رياح الشكوك على المجتمع، وصلت إلى حد الخيانة والعمالة، وصار من الصعب أن تميز بين بنى آدم وطنى وبنى آدم خائن في ثياب من البراءة دون بكارة، نعم، نعيش الزيف، ذلك أن للصدق رنة أخرى غير هذه الوجوه الصمغية والعيون الزجاجية.

■ امتلأ المجتمع بالفهلوة التي يروق للبعض أن يسميها «ذكاء»، فقد صارت لعبة «الثلاث ورقات» هي لعبة المجتمع المفضلة بعدة النَّصب، ويمكن القول إن النصب صار عن طريق فضاء الدجل أو الدين أو حنجورية السياسة، ويسقط البسطاء في حبائل هذه الفهلوة، لأن الجهل يقف عملاقاً في المدينة ولايزال يمارس التخلف باقتدار.

■ رحم الله السادات «بطل الحرب والسلام»، أول من أشار إلى حروف كلمة «الحقد»، والحق يقال، نحن نتنفس ثانى أكسيد الحقد.

■ الله في المدينة له بيوت عبادة في المساجد والكنائس والبعض يمارس الشعائر الدينية وتطاله الشرور والكبائر، لا أحد يفكر ملياً في كلام الله والإيمان، وفى تجربة الإخوان في حكم مصر، ظهرت موجات الإلحاد، فقد عاش الشباب متأرجحاً بين «مبادئ دعوية» و«مبادئ دموية»، فكان الإلحاد هو الحل، لقد رسب المجتمع في امتحان الدين «صفر على عشرة»، كشفت تجربة الإخوان وما بعدها عن سقوط أبناء البلد من شرطة وجيش، شهداء وطن وليس شهداء مولات، الإيمان في أزمة، ربما لضعف المؤسسات الدينية بعد أن كان للأئمة فيما مضى سحر، وكان للكنيسة كاريزما خرافية، وفى زمن الإخوان اُعتدى على المساجد والكنائس، هل لأن الإرهاب لا دين له؟ نعم، لا أحد في المدينة اهتم تربوياً بالنشء في هذا الزمان ولا ما أصابه من يأس وخذلان.

■ النخبة تمارس النفسنة، الفضائيات تمارس التجارة قبل الإعلام، الأحزاب كبرت أم صغرت تبحث عن «ثغرات» و«أنفاق» للبرلمان، الشخصيات العامة المحترمة- من بنوارها- تتفرج وتتأمل، المصرى المطحون فاغر فاه ومندهش.

■ غاب الرقى كثيراً عن حياتنا، صارت الأفعال فجة ومستهجنة، وصار الكذب هو الواجهة، اختفت وجوه خلف أقنعة، وصار الهمس غباراً يخفى الوضوح، صارت القمامة عنوان مجتمع، ولست أهيل التراب على وجه مجتمع أو أتجنى عليه، لكننا نحن المصريين فعلنا بأنفسنا ما لا يفعله العدو بنا، صرنا نتجول في وادى الضلال، صرنا نتسكع في مدن الشر، صرنا غرقى في بحر الجهل بالدين والقيم، تأملوا ما يقوله رئيس مصر لشيخ الأزهر عن تغيير الخطاب الدينى: «هتتحاسب أمام الله»، تأملوا ما يقوله للفنانين في عيد الشرطة: «هتتحاسبوا أمام الله»، لماذا يشهد السيسى الله على قيادة دينية وعلى قوة مصر الناعمة؟ لأنه لا أحد في المدينة يهتم لهذا الشأن، فقد أصبح الرقى أملاً مجتمعياً.

■ حكومة بلدى «ملهية» في شؤون البلد، مشاكل مصر بعدد سكانها، حكومة «مشغولة» بتفاصيل فرضت عليها، لهذا يهرب الوزراء والمحافظون من هموم بهذا الحجم حكومة «مغروسة في أرض الماضى بتركته الثقيلة من حكومات سبقتها وجلست في نفس المقعد، حكومتنا برئيسها الكاجوال نقلت مكتبها إلى الشارع، نعم، في المجتمع عورات تحتاج لطبيب يستأصلها، عورات منذ أن خرج من السجون هرباً «المسجلون خطر»، عورات في نخبة صدعتنا بالتنظير والنظريات، وعورات في التعليم، في المدرسة والمدرس والمنهج والامتحان، لدينا تعليم لا يشبه التعليم.

■ التعليم في مصر «مخمخم»، ولا أجد كلمة تعبر عنه غير هذه الكلمة، أحلم بتعليم يعانق الحياة وينسف أسلوب «صم المقررات»، أحلم بتعليم يجعل من المدرسة مركزاً للجاذبية، أحلم بتعليم يختار فيه المدرس الواثق من نفسه، الذي يفرض احترامه على تلاميذه، أحلم بتعليم خال من «ثانى أكسيد الغش»، وتسريب الأسئلة، أحلم بوزير إذا اكتشف الخلل في المنظومة عليه أن يرحل.

■ إننى أدعو إلى «مؤتمر نفسى» يأتى فيه نخبة من علماء النفس والفلسفة والتربية والاجتماع، هذه الكوكبة من علماء الإنسانيات يجتمعون على مدى أيام ثلاثة يفسرون الظواهر الطارئة على سطح المجتمع بورقة نقاش علمى متخصص من خبراء، وعنوانها «تدنى السلوكيات: الحالة والحل»، فمازال دور علماء الإنسانيات مجهولاً ومقصوراً على بعض الشذرات، بيد أن لهم دوراً محورياً في رصد أحوالنا النفسية وطقوس حياتنا، وقد كان عالمان من بلدى هما د. سيد عويس ود. أحمد خليفة يطالبان بإعلاء صوت «الصحة النفسية» في المجتمع، وضاعت الأصوات في الصخب كما تضيع قيم معنوية بنفس الطريقة، إن عقل المجتمع يفتقد هذه الصحة، ويفتقد ضخ الوعى في العروق.. إننى- وهذه جملة اعتراضية- كلما جلست أمام عدسات متحدثاً أو مقدماً لبرنامج أفكر في بذر اللحظة بفكرة، بنبذة، بمعلومة، بتسييد لقيمة، باستهجان لقبح، وقد صارت الشاشة «الصحيفة اليومية»، إننى- عبر حوار باسم- أنتهز الفرصة وألقى البذرة في عقلٍ خصب، مثلاً البلد يجب أن يمتنع عن «هدر الوقت»، البلد يجب أن يضع أهدافاً ليحققها في توقيت زمنى، البلد يجب أن يجعل «العمل قبل الكلام» شعاراً، الفن يجب أن يعود بقوة، المسرح يجب أن تجلجل جنباته، إن نصف مجد عبدالناصر كان «قوة ناعمة»، هي ظهيره، المذيعون هذا الزمن «جننتهم الملايين»، فصارت إعلانات الشاشات هي «الممول» للقنوات، إن أغنية «بشرة خير» حركت الوعى يوماً، لا أحلم بفن متجهم، ولكن بفن فيه تتعانق البهجة مع الفائدة، وإذا كان في البلد «عاطلون» تسيطر عليهم فلوس الإخوان وتستثمر عضلاتهم في المظاهرات، أصبح لرجال المال في مصر دور وطنى يحول هذه الطاقة إلى الخير لا الشر.

■ آن لمجتمع الخرافة أن يرحل، آن للخطاب الدينى العاجز أن يرحل، وآن لمنهج التعليم البائس أن يرحل، آن للسينما «العورة» أن ترحل، آن للفضائيات الثرثارة أن ترحل، آن «للسلبطة» في علاج قضايانا أن ترحل، آن للحل الأمنى وحده في درء المشكلات أن يرحل، آن لضجيج النخبة أن يرحل، آن لسينما تحمل أختام الجزارة أن ترحل، آن للعقل أن يفعّل، وعلى العاطفة الهوجاء أن ترحل، آن للملوَّن عديم الضمير أعمى البصيرة أن يرحل، آن لسياسةٍ بألوان الطيف أن ترحل، آن لشماتة وضيعة في رحيل رمز مصرى معشوق أن ترحل، وآن للنفيس أن يبقى وللخسيس أن يرحل.