فاتن حمامة.. وداعاً لمن ارتقت بنا

الدكتور مصطفى النجار الإثنين 19-01-2015 19:33

تتكاثر سحائب الحزن وتغيم السماء لتبكى دموعا فى رحيل هذا الوجه الملائكى الذى تنظر إليه فترتاح روحك وتصفو نفسك وتسمو بإحساسك وأنت تسمعها تتكلم بتلقائيتها وبساطتها التى تجعلك تصدقها فى كل دور أطلت به على الشاشة، هى الفتاة الرقيقة والمرهفة الحس هى الفقيرة والثرية هى المناضلة التى تبحث عن الحب مع حبيب مناضل يقول (لا وقت للحب) هى صاحبة (الباب المفتوح) الذى فتح قلوبنا لحكايا المعاناة وخيبة الأمل ثم يقظة الروح واسترداد الحياة وتحدى الواقع، هى الأم التى تعيش لأبنائها فى (إمبراطورية ميم) وهى المرأة التى تدافع عن حقوق النساء فى (أريد حلا) وهى صوت الضمير الذى يعنى بتربية النشأ واستعادة القيم ومقاومة طمس الهوية وهجوم القبح فى (ضمير أبلة حكمت) هى كل ذلك وأكثر بكثير من أن تحصر السطور محطاتها.

إذا كنت تود أن تعرف لماذا نبكيها رجالا ونساءً فقارن بينها وبين من قدمن المرأة المصرية للعالم فى مجال الفن ستتذكر هذا الرقى وأنت تتذكر مجمل أعمالها التى لن تجد فيها مكانا للابتذال، وحين أراد خفافيش الظلام إجبارها يوما على ما ترفضه فطرتها جمعت أمتعتها ورحلت عن الوطن لتحافظ على نفسها وصورتها النقية فى قلوب أجيال وأجيال.

ولدتُ شخصيا فى أول الثمانينيات مع طوفان القبح الفنى الذى اجتاح مصر لكننى كنت أحنّ دوما للأبيض والأسود الذى كان ينقلنى لزمان تمنيت أن أعيش فيه وألتقى بأشخاصه، لم يفتنى فيلم على التلفاز وجدت فيه فاتنتى وملهمتى الراقية والصادقة والحقيقية، نعم إذا كانت هناك كلمة واحدة تستطيع بها أن تصف فاتن حمامة فهى (الحقيقية) فى كل شىء، ومدى إبداع الممثل أن يجعلك تندمج وتتماهى معه وتتمازج وتنسى حدود الشاشة والصنعة الفنية، فإذا انتهى العمل الفنى شعرت باغتراب وفراق مؤلم، وهكذا كانت.

كنت أتابع بشغف مسيرة حياتها وتوقفت عند ثقافتها وعمقها ولباقتها الآسرة ودائما كنت أجد نفسى متورطا فى المقارنة بينها وبين كثير ممن ملأن الشاشات والسينمات وأرثى لمصر الجميلة التى أنجبت هذه المرأة ثم عجزت أن تمنحنا مثلها، لم تضايقنى مواقفها السياسية المعلنة خلال السنوات الأخيرة لأننى لم أتعامل معها كسياسية بل كإنسانة منحتنا القدرة على الصفاء والإبحار إلى عالم من الرقة والشفافية لا مثيل له. فاتن حمامة حالة نفسية فريدة تتجاوز الإعجاب بفنان إلى مرحلة تلتئم فيها نفسك وتنبض جوانحك بعاطفة سامية عبرت عنها وأرستها فى قلوب الملايين الذين يبعث صوتها ووجهها الراحة والطمأنينة فى قلوبهم.

رحلت فاتن حمامة ولكنها باقية بما حفرته فى كل الأجيال التى تلقت فنها وأحبته، رحلت وهى توصى ألا يقام لها عزاء، والحقيقة أننا من نعزى أنفسنا وذوقنا العام الذى ينحدر يوما بعد يوم ويرتفع فيه صوت القبح وطوفان الإسفاف، إذا كان الفن يرتقى بالشعوب فإن فاتن حمامة ساهمت فى الارتقاء بالمصريين وحسهم على مدار العقود الماضية، وداعا يا فيض المشاعر ودفق الإحساس ونهر الحب الذى يروى ظمأنا لإنسانية طالما نشتاق للقاها والعيش فيها، سلام على روحك.

alnagaropinion@gmail.com