عرضنا في الحلقة الأولى من هذا الملف لسيرة قائد ثورة 1919 المسلحة عبدالرحمن بك فهمى، وأهم محطات هذه الثورة وقدمنا قراءة مبدئية في الوثائق النادرة التي قدمها لنا نجله صلاح الدين عبدالرحمن فهمى «زميل جامعة جرين فالى، والوكيل الأسبق للجهاز المركزى للمحاسبات»، فيما يعد قراءة جديدة ومختلفة لجانب مهم من جوانب ثورة 1919 وهو الجانب المسلح، حيث تكاد تستقر ثورة 1919 في أذهان معظم المصريين على أنها كانت ثورة سلمية واجهت المحتل البريطانى لمصر فواجهها بالسلاح مواجهة منهجية، قادها الرجل العسكرى عبدالرحمن بك فهمى، والذى تعاون مع الزعيم سعد زغلول ونسق معه من خلال رسائل متبادلة، ونواصل في هذه الحلقة القراءة في الوثائق النادرة التي تكشف عن سيناريوهات ودراما الثورة المسلحة من خلال هذه المكاتبات المتبادلة بين الزعيم سعد زغلول في باريس وعبدالرحمن بك فهمى، قائد ثورة 19 المسلحة في مصر، وهى مكاتبات كثيرة وطويلة اكتسبت طابع السرية وحملها وسطاء مختلفون وبطرق مختلفة، وفى هذه الحلقة نكشف عن العديد من محتوى هذه الرسائل التي تقدم دراما تفصيلية لمجريات ثورة 19.
متى بدأت الصلة بين عبدالرحمن فهمى وسعد زغلول؟ ليس هذا معروفا على وجه الدقة، ولكن المعروف أن عبدالرحمن فهمى كان موجودا عند تأليف الوفد على نحو يستكمل تمثيله لطوائف وطبقات وفئات الأمة واتجاهاتها، فهو الذي اقترح – أو ممن اقترحوا – على سعد أن يستكمل الوفد تشكيله بدخول ممثلين عن الحزب الوطنى وقدم له بالفعل كلا من مصطفى النحاس وحافظ عفيفى وكانا من المشايعين للحزب الوطنى – وإن لم يكونوا عضوين رسميين فيه – ولابد أن عبدالرحمن فهمى قد ساهم في حركة التوكيلات وقد ساعد في تلك المرحلة، وكان أعضاء الوفد قبل سفرهم في 11 إبريل 1919 للحاق بسعد وصحبه في مالطا لأخذهم إلى باريس، مقر مؤتمر الصلح، للدعاية للقضية المصرية قد ألفوا لجنة مركزية للوفد في مصر – طبقا للمادة 26 من لائحة الوفد – يكون عملها الرئيسى جمع التبرعات لتغطية احتياجات الوفد في باريس ولجمع المعلومات عن الموقف في مصر وإرسالها إلى الوفد في باريس، ليستخدمها في الدعاية للقضية المصرية في دوائر المؤتمر، والأوساط العالمية الصحفية والسياسية، وكان رئيس هذه اللجنة المركزية هو محمود سليمان باشا (والد محمد محمود باشا عضو الوفد) ووكيلها وأمين صندوقها إبراهيم سعيد باشا، وكان السكرتير العام لهذه اللجنة عبدالرحمن فهمى – ويبدو منذ البداية أن عبدالرحمن فهمى كان الشخصية المسيطرة في هذه اللجنة وقد وجد الوفد بمجرد وصوله إلى باريس أن معاهدة فرساى قد نصت على الحماية البريطانية على مصر، وكانت ألمانيا قد قبلت المعاهدة وظل الوفد يعلق الآمال على موقف برلمانات دول الحلفاء، ولا سيما الكونجرس الأمريكى – بسبب موقفه المعارض بصفة عامة لمعاهدة فرساى – ولكن سعد كان يدرك أن الأمل في الموقف الدولى قد انقطع، وأن المسألة المصرية ستخوض معركتها على أرض مصر وحدها وكان الإنجليز يدركون هذه الحقيقة كذلك، فلم يكن يقلقهم كثيرا وجود الوفد في باريس، وإنما كان مصدر قلقهم هو الوحدة الوطنية في مصر التي تلتف حول الوفد، وفى هذا السياق بذل عبدالرحمن فهمى جهودا خارقة لتوحيد المصريين ليلتفوا حول الوفد، وقد حالت هذه الجهود دون ضرب هذه الوحدة الوطنية وشق صف الأمة أثناء وجود الوفد في باريس، ولذا كان للجبهة الوطنية الداخلية وحدتها وتماسكها والتفافها حول الوفد، وكان هذا من أخطر المسؤوليات التاريخية التي ألقيت على عاتق اللجنة المركزية في مصر، وعلى عبدالرحمن فهمى تحديداً ولذلك وفى سبيل تحقيق هذا وفى سياق هذه الجهود خرجت مهمة اللجنة من دائرة جمع التبرعات إلى دائرة العمل السياسى والميدانى الواسع.
وفى سياق التواصل بين الوفد في باريس واللجنة المركزية في مصر، كان لابد من إيجاد وسيلة للاتصال السرى بينهما تفاديا للرقابة والسلطة العسكرية ليطلع فهمى الزعيم سعد زغلول من ناحية على الموقف في مصر بكل تفاصيله، وأيضا ليعرف المصريون ما تقوم به لجنة الوفد بباريس ولتتلقى هذه اللجنة المركزية في مصر توجيهات سعد
ويروى عبدالرحمن فهمى في مذكراته، قصة التراسل بينه وبين سعد زغلول، كما تحدث عن التلغراف الذي ورد من سعد زغلول باشا لمحمود سليمان باشا رئيس اللجنة المركزية ويسميه عبدالرحمن فهمى (التلغراف المشؤوم) والتلغراف يقول: «منذ وصولنا وجدنا جميع الأبواب موصدة في وجوهنا. كل الجهود والمساعى لم تؤد إلى نتيجة في النص التمهيدى لمحادثات الصلح»، ثم يروى عبدالرحمن فهمى أنه جاءه قبل نهاية الشهر الأول من سفر الوفد إلى باريس (كل من سعادة سيد باشا خشبة وأصحاب العزة إبراهيم بك سلطان وحفنى بك محمود وعلى بك محمود وإبراهيم بك الهلباوى، وكان يلوح على وجوههم جميعا الانقباض والتشاؤم) فسألهم عبدالرحمن فهمى عما أصابهم فناوله أحدهم التلغراف المذكور، وخشى عبدالرحمن فهمى من إذاعة مثل هذا التلغراف لما يمكن أن يسببه من إحباط للجهود الوطنية في مصر ولما قد يلحقه من الضرر البالغ، خصوصا بالنسبة لحركة التبرعات، فاحتال على حامليه بحيلة وهى الادعاء بأن هذا التلغراف مزور ومدسوس على سعد زغلول، وأوهمهم أن التلغرافات الصحيحة تكتب عادة على ورق الكربون وتكون الكتابة ظاهرة من الخلف واقتنع الناس بما قاله عبدالرحمن فهمى واقتنعوا بأن هذا التلغراف مفتعل، ولكنه خشى بعد ذلك أن يذاع أمر هذا التلغراف ولو بوصفه مفتعلا، فطلب من إخوانه الذين حملوا إليه التلغراف أن يقسموا جميعا وهو معهم على بقاء أمر هذا التلغراف سرا، وأرسل فهمى إلى سعد زغلول يعاتبه على هذا التلغراف في رسالة قال فيها: «جاء تلغراف لسعادة محمود باشا سليمان بالصورة الآتية (وذكر ما ورد في التلغراف) فلم يخامرنى أي شك في أن هذا التلغراف مفتعل وغير صادر منكم لأنه يصعب على جدا أن أعتقد أن سعد باشا زغلول ذاك الرجل العظيم يفتكر أن أمته من البلاهة لدرجة تظن أن الاستقلال عبارة عن طرد أو شىء موجود في مخازن اللوفر أو غيرها بباريس يمكنه مشتراه، أي يمكن مشتريه أن يشتركه، في بضعة أسابيع والعودة إلى مصر، فإذا كانت الأبواب الرسمية قد أقفلت في وجه الوفد، فهناك الأبواب غير الرسمية كالمجالس والهيئات النيابية والجرائد والرأى العام، صاحب السلطان الأكبر على الحكومات، كل هذه الأبواب مفتحة الطريق أمام الوفد»، وفى مفكرته قال عبدالرحمن فهمى إن سعد زغلول رد عليه بقوله «أنا أحب أن أبين لك الحالة هنا تماما وأنت لك أن تذيع في الأمة ما يصح نشره وتخفى عنها مالا يصح العلم به»، ويعلق فهمى في مذكراته على رد سعد زغلول بقوله: «ولكن فات سعادته أن هذا التلغراف أرسل لمحمود باشا سليمان وأن أربعة من أعضاء اللجنة عرفوه قبل أن أطلع عليه، وعلى كل حال فأنا أحمد الله الذي دفعنى لابتكار هذه الطريقة التي كانت سببا لاقتناع حامليه بعدم صحته».
ومن المرجح أن هذا التلغراف هو الذي دفع عبدالرحمن فهمى إلى إيجاد طريقة للمراسلة السرية بينه وبين سعد زغلول، فطلب من أحد الذين كانوا يعملون مع سعد وقت أن كان سعد مديرا للجامعة المصرية أن يطلب إجازة ثلاثة أشهر ونصف من الجامعة وأن يعمل سكرتيرا خاصا لسعد زغلول في باريس واتفق معه على طريقة المراسلة، وكان هذا الشاب هو محمد وجيه، ويقول فهمى: قد فهمت من الأستاذ محمد صادق فهمى ما يلى:
1- أن محمد وجيه سافر لهذه المهمة وانتدب محمد صادق فهمى للعمل مكانه كسكرتير للجامعة مدة غيابه وأنه مما سهل هذا كله أن سعد زغلول كان مديرا للجامعة وكان على بهجت، وكيل الجامعة، يسهل عمليه الندب هذه.
2- كانت قد تألفت سكرتارية فنية بشأن هذه الرسائل تعمل تحت إشراف عبدالرحمن فهمى وكانت مؤلفة من المرحوم الدكتور أحمد ماهر والأستاذ محمد صادق فهمى وأن الحبر السرى الذي كان يستخدم في المراسلات كان ماء البصل.
3- أن الأستاذ محمد وجيه كان يرسل الخطابات على صفحات مجلة فرنسية أو إنجليزية كورقة من ورقات المجلة ويتسلمها محمد صادق فهمى ويسلمها إلى عبدالرحمن فهمى الذي يتولى مع أحمد ماهر وصادق فهمى إيضاح الكتابة، وكان عبدالرحمن فهمى يرسل رسائله السرية إلى سعد بنفس الطريقة، كما كان عبدالرحمن فهمى في أحيان أخرى يرسلها إلى سعد في باريس مع أحد المسافرين ومنها المستندات الأولى التي طلبها الوفد عن فظائع الإنجليز في نزلة الشوبك والعزيزية، ويظهر نموذج لما يكتب بالحبر السرى، وهى وثيقة مهمة تنشر لأول مرة.
وتعد الرسائل التي ضمها كتاب الدكتور محمد أنيس سواء التي أرسلها سعد زغلول من باريس للجنة المركزية للوفد بالقاهرة توثيقا ليوميات الوفد في أوروبا ورصدا لجهوده بالتفصيل، وكذلك الرسائل من مصر إلى الوفد التي تعد توثيقا لمجريات ثورة 1919 في مصر ومن رسائل الوفد للجنة الوفد في مصر رسالة تنفى ما تشيعه إنجلترا لوقوع خلاف بين أعضاء الوفد في باريس وقد بدا هذا واضحا في الرسالة التي كانت بتاريخ 23 يونيو 1919 وجاء في موضع منها: «لايزال الوفد مشتغلا بنشر ما يجرى في مصر من التصرفات لإفهام العالم حقيقة آلام المصريين وآمالهم ولنا الثقة في أن إذاعة هذه الأمور في جميع أنحاء العالم ولاسيما أوروبا وأمريكا تعود بالثمرة المرجوة. إن الإشاعات السيئة التي أذاعها الأعداء بخصوص الوفد كلها كاذبة ومن مخترعات مروجيها، فالاتفاق تام بين جميع الأعضاء ولم يقع أي خلاف فيما بينهم والاتحاد متين بين الأقباط والمسلمين، ويمكنكم أن تؤكدوا ذلك للأمة.. وأكذب الإشاعات عن الوفد ما نشرته جريدة التيمس (التايمز) في عددها الصادر في 17 يونيو الجارى بخصوص الخلاف المزعوم وقوعه بين الرئيس وشعراوى باشا فإنه لا يوجد بينهما إلا كل اتفاق ووئام والإشاعة محض افتراء والوفد دائب على العمل بكل جهد في سبيل الغاية التي انتدبته الأمة لها وهو مملوء سرورا لثقة الشعب فيه ومما شجع الوفد على أداء مهمته ما يراه من تشبث المصريين بالمطالبة باستقلالهم التام، والوفد غير راض عن المنشورات التي تفيد اعتماد المصريين على الألمان، فهى منشورات يستفيد منها أعداؤنا بأن الحركة المصرية لها اتصال بالألمان والحركة البلشفية وهذا يضر بقضيتنا».
وفى رسالة من الوفد بتاريخ 4 يوليو 1919: «لم يذهب إلى إنجلترا أحد من أعضاء الوفد وعلى الخصوص محمد باشا محمود ولطفى بك السيد اللذين تكلمت عنهما الجرائد بخصوص سفرهما إلى إنجلترا، وأن هذين العضوين يتمسكان كل التمسك بمبادئ الوفد.. مدام عزمى وصلت ونقلت إلينا ما كلفت بتبليغه بخصوص الحوادث الجارية عندكم، ومسيو سيمون وصل المستندات وقد وصل متأخرا واعتذر بأن سبب ذلك هو اضطراره للانتظار في بورسعيد أكثر من أربعين يوما قبل أن يجد له محلا في مركب وقد بلغنا أن أمين بك الرافعى مشتغل بتأليف كتاب عن الحركة المصرية».
ومن الرسائل التي أرسلها عبدالرحمن فهمى لسعد زغلول رسالة بتاريخ 22 يوليو 1919 جاء فيها: «سعادة سعد باشا زغلول.. فكرة الاستقلال الذاتى لم يروجها إلا الخونة الأنذال والمأجورون ولكنها على كل حال لم تلق قبولا لأن السواد الأعظم بل الأعظم جدا من الأمة لا يريد غير الاستقلال التام. وهناك فكرة أخرى عرضها علينا مرقس أفندى فهمى المحامى، وجار بحثها من ثلاثة أسابيع مضت مع ذوى الكفاءة من أبناء الأمة المخلصين، حيث عقدنا لذلك أربع جلسات ولم ننته منها بعد وهى أن تتنازل مصر عن كل حق لها في السودان وأن تعطى للإنجليز حق المحافظة على قناة السويس بحيث يحق لها أن تضع الحامية الكافية وأن تكون لإنجلترا كل حقوق صندوق الدين وأن ترجع مصر إليها للمصادقة على كل قانون يراد تنفيذه على الأجانب، وأن يترك الموظفون الإنجليز في وظائفهم إلى أن ينقرضوا وأن يكون شأنهم شان الموظفين المصريين تماما، وفى نظير كل هذا تعترف إنجلترا باستقلال مصر وألا تعرقل مساعيها للانضمام إلى عصبة الأمم، هذا هو ملخص البرنامج الذي عرضه علينا مرقس أفندى فهمى ولكنه لم يجد تأييدا من معظم أعضاء اللجنة التي كوناها لهذا الغرض، لقد سرت الأمة بالأخبار المؤكدة الدالة على الدور العظيم الذي ستأخذه القضية المصرية بأمريكا حقق الله الآمال غير أن سعادتكم لم تبينوا لنا ما إذا كان من اللازم إرسال وفد لأمريكا من هنا أم يكتفى بما وصل إليه الوفد فالرجا الإفادة.