بعد اغتيالهم لرجل الشرطة الوحيد بالمنطقة، أصبح شارع نيكولا أبير، مسرح أحداث 7 يناير 2015، خالياً تماماً.. ردد المهاجمون «انتقمنا للنبى!!».. لا أحد يسمع، لكن كاميرات التصوير التى زُرِعَت فى مواقع جيدة غطت الحادث، وسجلت الحديث، بكل حِرَفيَّة.. «أخبار عشرين دقيقة» أذاعت النبأ بعد وقوعه بـ3 دقائق!!.. البوليس الفرنسى وصل بعد نصف ساعة، رغم أن استجابته عادة لا تتجاوز العشر دقائق!!..الرئيس أولاند تفقد الموقع بعد ساعة، حتى قبل تمشيطه وتأمينه!!.. أحد المهاجمين حرص على استرجاع حذائه الذى سقط من قدمه، لكنه نسى بطاقة هويته بالسيارة!!.. التحقيقات لم توضح مصدر علمهم بموعد اجتماع هيئة تحرير مجلة «شارلى إبدو»، لكن الرسامة «كورين رى» كانت أمام بوابة البناية المشفرة لتفتحها «تحت التهديد»!!.. الشرطة نشرت على الفور صور المشتبه بهم باعتبارهم «الفاعلين»، رغم أنهم كانوا ملثمين!!، ثم قامت بتصفيتهم لتقتصر القضية على الرواية الرسمية.. حتى الشخص الذى ادعت الشرطة احتجازه كرهينة بالمطبعة، تبين أنه كان مختبئاً بالمطبخ، وعلى اتصال بها طول الوقت!!.. وعميد الشرطة القضائية «إرليك فريدو»، الذى تولى التحقيق، انتحر قبل تسليم تقريره!!!
المهاجمون «الشقيقان سعيد وشريف كواشى وأحمدى كوليبالى» معروفون جيداً للأمن الفرنسى.. مدرجون على لائحة الإرهابيين «الأخطر» فى الولايات المتحدة وبريطانيا، التحقوا بخلية «بيت شومون»، التابعة للقاعدة بفرنسا 2004، التى خططت لضرب السفارة الأمريكية بباريس 2001، وقتل منها ثلاثة بصفوف الزرقاوى إبان غزو العراق 2003، واعتقل العشرات بفعل التنسيق الأمنى الفرنسى السورى، شريف اعتقل لمدة شهر بداية 2005، خلال توجهه للعراق مع سبعة من أعضاء الخلية، بينهم بوبكر الحكيم، الذى التحق بصفوف «داعش» بسوريا، بعد اغتياله لشكرى بلعيد ومحمد البراهمى بتونس.. أعيد القبض عليه 2008، وحكم عليه بالسجن 3 سنوات، نصفها مع إيقاف التنفيذ.. سعيد تدرب فى اليمن على يد العولقى 2011، وقاتل فى سوريا والعراق.. كوليبالى اُطلق سراحه منذ شهرين.. رغم كل ذلك أسقطت السلطات الفرنسية عنهم مراقبة جهاز الأمن الداخلى، وسمحت لهم بحرية الحركة!!.
وهكذا.. كل الشواهد تؤدى لنظرية المؤامرة فى تفسير الوقائع.. حتى التحذيرات المسبقة التى تلقتها المخابرات الفرنسية من نظيراتها اللبنانية والسورية والجزائرية ليست قرينة على فساد تلك النظرية، لأن تحريك عناصر الخلية لتنفيذ عمل إرهابى يتم من خلال تنظيماتها، التى تخترقها أجهزة المخابرات الدولية، بمستويات متفاوتة، تبدأ بمصادر للمتابعة، وتنتهى بقيادات تنظيمية وحركية توجه وتخطط وتأمر بالتنفيذ.. شواهد الاختراق محدودة بالطبع لحساسية الموضوع، لكنها قاطعة الدلالة.. اتصال برنار سكارسينى، رئيس المخابرات الداخلية الفرنسية، بنظيره السورى على مملوك فبراير 2012، لتنسيق وقف إطلاق نار خلال معركة بابا عمرو بحمص، لتأمين خروج ايديث بوفييه مراسلة لوفيجارو وعدد من الفرنسيين المنخرطين فى صفوف «كتيبة أبوبكر» الإرهابية المعارضة، وبالفعل قام الجيش الحر بنقلهم للبنان.. ثم ما كشفته صحيفة ماكلاتشى الأمريكية عن انشقاق عنصر المخابرات الفرنسى «ديفيد دروجون»، ذى الأصل العربى، الخبير فى تصنيع المتفجرات، وانضمامه لجبهة النصرة، قبل أن تعلن فوكس نيوز مصرعه بسوريا بطائرة أمريكية بدون طيار 6 نوفمبر2014.
البيانات الرسمية تؤكد أن 1400 فرنسى مقيم غادروا للقتال فى سوريا والعراق، قتل منهم سبعون، وعاد منهم قرابة المائتين، وأجهزة الأمن فككت 13 خلية تسعى لتجنيد المزيد، بعض العناصر الفرنسية العائدة نفذت بالفعل عمليات إرهابية، أهمها اعتداءات محمد مراح فى تولوز وآخرها ضد مدرسة يهودية مارس 2012 وقتل سبعة أشخاص، وهجوم مهدى نموش على المتحف اليهودى ببروكسل مايو 2014 وقتل أربعة.. وكل المؤشرات تؤكد تصاعد تلك العمليات، رداً على المشاركة الفرنسية الفعالة فى الحرب ضد «داعش»، ونجاحها فى القضاء على الجهاديين فى مالى، وموقفها من الصراع الليبى.. لذلك بدلاً من مفاجأتها بعمليات إرهاب كبرى، فإن تعرضها لعمليات- تحت السيطرة- يعتبر بديلاً أفضل، رغم مرارته، على أن يتم توظيفه فى التعبئة الوطنية والدولية ضد الإرهاب، وتمرير إجراءات أمنية احترازية واستثنائية لمواجهته، وتصفية الخلايا النائمة.. ذلك هو الهدف.. وتلك مبررات الانحياز لنظرية المؤامرة.
الخلاف بين مؤسسات الدولة الفرنسية بشأن الموقف من الجهاديين يعزز فكرة المؤامرة، فعندما اشتعلت الثورة السورية مارس 2011، ثار خلاف حول تقييم الموقف وآليات التعامل معه، المخابرات والسفير الفرنسى بدمشق إريك شوفالييه اعتمدا على معلومات ميدانية ومصادر بالمعارضة، تؤكد قدرة النظام على الصمود والمواجهة، أما قصر الإليزيه «الرئاسة» ووزارة الخارجية «كى دورسيه» فقد انحازا لفكرة إعطاء فرصة للإسلام المعتدل فى الحكم كمحاولة لاحتواء التطرف الدينى، التى تبناها باتريس باول، رئيس قسم الشرق الأوسط بالخارجية، آنذاك، والسفير الحالى ببيروت، واقتنعا بالرؤية القطرية التى أنكرت وجود جماعات جهادية مسلحة، وبالغت فى تقدير ثقل المجلس الوطنى المعارض. المخابرات قدمت تقريراً حول «عسكرة الثورة السورية» يونيو 2011، أبرز الطبيعة السلفية والإخوانية للمعارضة المسلحة، وخطرها على الأمن الفرنسى والأوروبى، لكن الرئاسة تمسكت بموقفها، ونقلت برنارد باجولى، المنسق العام لأجهزة المخابرات، كسفير بأفغانستان أواخر 2011، قبل استدعاء الحكومة له لتولى رئاسة المخابرات إبريل 2013، وسط تحفظات رئاسية.
أثيرت الخلافات من جديد منتصف 2014، بعد انتخاب البرلمان الليبى ودعوة حكومة الثنى المجتمع الدولى لتحمل مسؤولياته فى حماية المدنيين، ومنع انتشار الإرهاب لدول الجوار.. وزير الدفاع الفرنسى طالب بالتدخل خلال اجتماعات وزراء دفاع الناتو بميلانو سبتمبر 2014، مستندا لنجاح التدخل فى مالى، وقام ورئيس أركانه بزيارة للجزائر فى محاولة فاشلة لتمرير الفكرة، وأقام قاعدة متقدمة فى مداما شمال شرق النيجر، افتتحها بنفسه مطلع يناير 2015، لكن الرئاسة كررت رفضها للتدخل قبل عملية شارلى بثلاثة أيام فقط.. بعد العملية وما صاحبها من تعبئة شعبية ودولية ضد الإرهاب، الكامنة إحدى قواعده الرئيسية على الضفة الأخرى من المتوسط، فإن تغييرات فى الموقف الفرنسى والدولى تجاه مزيد من الحسم لملف الإرهاب فى ليبيا يمكن توقعها فى المستقبل القريب، خاصة على ضوء نتائج محادثات المصالحة فى جنيف، بإشراف الأمم المتحدة.
«إرهاب باريس»- أياً كان مصدره- سيشكل علامة فارقة فى آليات التعامل مع الإرهاب فى أوروبا، والشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، وتداعيات أخرى بالغة الأهمية.. تصاعد دور اليمين الأوروبى، ومكاسب محتملة فى الانتخابات المقبلة.. استهداف المسلمين والعرب، من اليمين وأجهزة الأمن، ما يسهل للتنظيمات الجهادية مهمة استقطابهم.. استثمار إسرائيلى للموقف، نتنياهو تصدر المسيرة بعد أن كان وبعض وزرائه مهددين بالقضاء الأوروبى، زيادة أعداد المهاجرين، ومزيد من الحماية والحصانة لليهود.. تأصيل عقيدة «ردع المخاطر قبل استفحالها» لدى حلف الناتو، بدلاً من «مواجهة العدوان».. إعادة مراجعة للسياسة الفرنسية تجاه سوريا، لأهمية التعاون الأمنى معها للأمن القومى الفرنسى.. غلبة الرؤية الفرنسية لصراعات الشرق الأوسط على الرؤية الأمريكية، خاصة بشأن الموقف من الصراع الليبى، وحدود التعاون مع نظام الحكم بمصر، والتسليم بدورها الإقليمى ومكافحتها للإرهاب.
ولا تفوتنا دلالة اقتصار المشاركة الأمريكية فى المسيرة على سفيرتها بباريس، كتعبير صريح عن الامتعاض من لجوء فرنسا لنفس نظرية المؤامرة التى استخدمتها واشنطن فى 11 سبتمبر 2001، لفرض رؤيتها فى التعامل مع الإرهاب الدولى.. والغريب، رغم كل ذلك، تنافس «القاعدة» و«داعش» فى تبنى الهجوم.. «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَيَعْقِلُونَ».