ثورة 1919 المسلحة (الحلقة الأولى)

كتب: ماهر حسن السبت 17-01-2015 22:36

تكاد تستقر ثورة 1919 في أذهان معظم المصريين على الصورة الشائعة التي شاهدوها في الدراما والسينما وقرأوا عنها في بعض المصادر على أنها كانت ذات ملمح واحد وجانب واحد وهو طابع الثورة السلمية، التي واجهت المحتل البريطانى لمصر فواجهها بالسلاح، ولا يعرفون أن جانبا من هذه الثورة كان ثورة مسلحة قام بها مصريون مؤهلون لذلك لمواجهة العنف بالعنف، ولكنها لم تكن ثورة اجتهادية أو عشوائية وإنما خبيرة ومدربة قادها رجل عسكرى متمرس له خبرة طويلة ومتميزة وكفاءة نادرة شهد بها له أعداؤه قبل أصدقائه، ولم يكن هذا الرجل سوى عبدالرحمن بك فهمى، الرجل العسكرى الذي حار المحتل البريطانى في اكتشاف أمره أو وجود أدلة تدينه وتقطع بتعاونه مع الزعيم سعد زغلول، حيث ربطت هذا الرجل بالزعيم صلة وثيقة وجمعهما تنسيق محكم أدى لضبط وتحديد مجريات ونتائج هذه الثورة ودارت بين الرجلين مكاتبات كثيرة وطويلة اكتسبت طابع السرية، حتى إن فهمى توصل لاستخدام الحبر السرى فكان ينقل لسعد مجريات الثورة في مصر من خلال رسائل حملها وسطاء مختلفون وبطرق مختلفة إلى باريس، حيث الوفد بقيادة سعد زغلول، والذى كان بدوره يرسل لفهمى مطلعا إياه على مجريات الأمور مع الوفد في باريس ونحن هنا نقدم قراءة في وثائق نادرة للغاية ونكشف عن العديد من محتوى هذه الرسائل ونشوء وتطور العلاقة بين سعد وفهمى، التي آلت بعد نجاح الثورة إلى الفتور وربما القطيعة. وتظل من بين الوثائق النادرة المفكرة الشخصية لفهمى وهى أصلية ومكتوبة بخط يده، وهذه الوثائق كلها أمدنا بها نجل عبدالرحمن فهمى، صلاح الدين عبدالرحمن فهمى، الوكيل الأسبق لجهاز المحاسبات، والذى أضاف كثيرا لقراءتنا لهذه السيرة الغنية وقدم مجموعة من الوثائق النادرة التي صححت بعض الأخطاء عن سيرة فهمى لدى بعض المؤرخين، فضلا عن مجموعة من المصادر التاريخية التي استعنا بها في قراءة هذه الوثائق، التي تقدم دراما غنية عن كواليس هذه الثورة واستعنا بها في الكتابة عن سيرة فهمى ورسائله حتى اعتزاله الحياة السياسية.

الرسائل السرية بين سعد زغلول وعبدالرحمن فهمى

في كتاب الدكتورة شاهيناز طلعت «الدعاية والاتصال.. دراسة نظرية تطبيقية على الوثائق السرية البريطانية عن ثورة مصر سنة 1919»- والصادر عن مكتبة الأنجلو في 1987- في هذا الكتاب وفى فصول محددة نقف على الكثير من التفاصيل الخفية والمنسية في كواليس ثورة 1919.. وجهاد عبدالرحمن فهمى في الخفاء والعلن، وعن العلاقة الحميمة بينه وبين الزعيم زغلول، والرسائل المتبادلة بينهما وبعض من الوثائق البريطانية السرية التي تفسر نظرة بريطانيا للثورة وحكمها عليها، ومن ثم ممارساتها الوحشية في مواجهة مع هذه الثورة.

وفى كتاب الدكتور محمد أنيس «دراسات في وثائق ثورة 1919».. «المراسلات السرية بين سعد زغلول وعبدالرحمن فهمى»، الصادر في عام 1963 عن مكتبة الأنجلو، نقف على تفاصيل أكثر دقة لسيرة المناضل عبدالرحمن بك فهمى ومراسلاته مع الزعيم سعد زغلول وفيها كثير من الأحداث المنسية من ثورة 19 والتى لم يتعرض لها كتاب من قبل بشكل كاف ودقيق.

كما أطلعنا صلاح الدين عبدالرحمن فهمى على مذكرات والده عبدالرحمن بك فهمى وهى وثيقة نادرة مكتوبة بخط يده والتى على ضوء ما ورد فيها صحح لنا بعضا من الأمور عن حياة عبدالرحمن بك فهمى، وعلى رأسها تاريخ ميلاده، وتبين هذه المفكرة الشخصية أنه ولد ليلة الخميس 2 مارس سنة 1871 وليس سنة 1870، كما ورد في الكتب التي تكلمت عن سيرته، وتوفى في يوليو 1946 وتربى في منزل شقيقه الأكبر محمد ماهر (والد أحمد ماهر باشا) وقد تعين بالجيش المصرى برتبة ملازم ثان في بطارية السوارى سنة 1888 واشترك يوم الأربعاء 31 يوليو 1889 في معركة الدراويش، وجرح وأصيب بطعنة سيف إصابة شديدة، وفق ما ذكر فهمى، في مذكراته، لأنه أبلى بلاء حسنا، ومنح النيشان المجيدى ثم حضر في 3 أغسطس 1889 موقعة توشكى المشهورة وعين في أكتوبر 1893 ياورا لناظر الحربية (وزير الحريبة).

ولقوة شخصية فهمى وصرامته اختطفته نظارة الداخلية بتاريخ 26 فبراير سنة 1896 وعين مباشرة مأمورا لمركز سمالوط بالمنيا، ثم مأمورا لمركز بنى مزار 1899 ومأمورا لمركز إمبابة في يوليو 1901 وكان المركز يفتقر إلى النظام والضبط والربط، فعالج فهمى ذلك الخلل وحسن من أداء هذا المركز وحصل لقاء مجهوداته هذه على النيشان المجيدى الرابع سنة 1902 وبعد أن انتظمت الأعمال بالمركز بشكل أعجب رؤساءه، ولهذا السبب ولبلائه الحسن طلب منه مستشار الداخلية المستر ميتشل في أول إبريل 1902 أن يعمل مؤقتا مأمورا لمركز طنطا، لأن مأمور هذا المركز محال للتحقيق لتعذيبه أحد المتهمين في سرقة تمت من الخاصة الخديوية، وخشى المستر ميتشل أن يحدث إخلال بالنظام هناك. ويقول فهمى في مفكرته «من فضل الله وكرمه لم يحصل شىء يكدر الأمن طول بقائى في طنطا»، ثم في إبريل 1902 تم تعيين فهمى وكيلا لمديرية القليوبية، وفى مارس 1906 مديرا لإقليم بنى سويف، وفى نوفمبر 1907 مديرا للجيزة، أي أن عبدالرحمن فهمى حارب خارج مصر في السودان ثم تنقل داخل مصر من شمالها لجنوبها وغربها، وعرف المصريين بالتعامل المباشر معهم، كما عرفوه بقوة شخصيته وعزيمته ونزاهته، ثم عين أخيرا في 11 ديسمبر سنة 1911 وكيلا لعموم الأوقاف، ثم حدثت مشكلة أرض المطاعنة وكان فهمى قائما بأعمال النظارة، بدلا من الوزير وعلم فهمى باتصالاته الخاصة أن للخديو رغبة معينة فيها تضر بمصلحة الأوقاف فوقف ضد رغبة الخديو الذي غضب وتمت إحالة فهمى إلى المعاش في 20 نوفمبر 1913، وقد انتخب عضوا بالبرلمان عن دائرة عابدين في 2 يونيو سنة 1924.

وكان فهمى قد أخذ على عاتقه ومنذ أحيل إلى المعاش مهمة حصول مصر على استقلالها فكان ضمن خطته السفر للسودان الشقيقة مغادرا منزله سنة 1918 بعد أن أخفى هيئته تماما لأنه يعلم أن البريطانيين سواء في الجيش البريطانى أو في البوليس المصرى يعرفونه جيدا.

وفى السودان كان على موعد مع المجاهد زين الدين عبدالتام وزملائه من الوطنيين السودانيين بالجمعية السرية المسماة «اللواء الأبيض» واتفق معهم على عمل مشترك وثورة على الجانبين (المصرى والسودانى) ثم عاد إلى منزله في قصر الدوبارة بعد أن تم الاتفاق على خطة العمل المشترك وإن لم تكن فعالة بالشكل الكافى.

لقد كان عبدالرحمن فهمى (بك) السكرتير العام للجنة المركزية للوفد منذ تأليفها في أوائل إبريل عام 1919 حتى القبض عليه في أول يوليو 1920 لتقديمه للمحاكمة كمتهم أول في قضية المؤامرة الكبرى.

لقد نشأ عبدالرحمن فهمى وتربى في بيت شقيقه الأكبر محمد ماهر (باشا) صديق الخديو عباس حلمى وكيل نظارة الحربية، ولذلك أصر كرومر، إبان أزمة الحدود عام 1894 على نقل محمد ماهر من وكالة الحربية ولابد أن عبدالرحمن فهمى تأثر باتجاهات أخيه المعادية للإنجليز، كما أنه لابد أن صلته بماهر باشا كانت سببا في صله عبدالرحمن فهمى فيما بعد بالخديو عباس حلمى.

ووفقا لمذكرات فهمى خلال شغله منصب مدير الجيزة، بدأت متاعبه الحقيقية مع الإنجليز، فاصطدم في سلسلة من الأزمات مع الموظفين الإنجليز (مفتش الرى ومفتش الداخلية)، ويقول عبدالرحمن فهمى حول ذلك: «كنت سائرا في جميع أعمالى بالوظائف التي تقلدتها سيرا، ما كنت ألا حظ فيه إلا إرضاء ضميرى وكرامة المركز، بمعنى أنى كنت أتصرف في جميع المسائل، كبرت أو صغرت، بما يوحى إلى ضميرى مع مراعاة القوانين الجارى العمل بها. وما كنت أسترشد برأى مخلوق، كائنا من كان، وهذا للأسف الشديد كان يخالف الطريق الذي كان يتبعه زملائى المديرون في تصريف أعمالهم، حيث كانوا يستأنسون بآراء المفتشين الإنجليز في كل الأعمال المهمة وكثير من غير المهمة».

وفى عام 1911 انتهت مصادماته مع مفتشى الرى والداخلية إلى أن أصر مستشار الداخلية الإنجليزى على إبعاده من مديرية الجيزة أو إحالته إلى المعاش، وتوسط محمد سعيد باشا، الذي كان وزيرا للداخلية ورئيسا لمجلس الوزراء، ويبدو أنه كان على علاقة طيبة بعبدالرحمن فهمى، ولكن لم تفلح وساطة سعيد باشا، وعلم الخديو عباس بالأمر فطلب نقل عبدالرحمن فهمى إلى وكالة الأوقاف، وكانت الأوقاف في ذلك الوقت تابعة (وحتى عام 1913) للسراى، وبالفعل نقل عبدالرحمن فهمى في أواخر عام 1911 إلى الأوقاف ليصطدم هناك بالخديو نفسه بسبب أرض المطاعنة، على نحو دفع الخديو لإحالته إلى المعاش في عام 1913.

وكان سبب الصدام مع الخديو هو واقعة شراء أطيان المطاعنة، ولقد كتب عبدالرحمن فهمى قصة خلافه مع عباس في مقالين في «مجلة كل شىء والدنيا»، ويفهم من المقالين أن الخديو كان يريد من إدارة الأوقاف أن تشترى حوالى ثلاثة آلاف فدان بجهة المطاعنة في صيف 1912، وكان مدير الأوقاف أحمد شفيق باشا، في إجازة في أوروبا، وكان عبدالرحمن فهمى بك يتولى إدارة الأوقاف بالنيابة في ذلك الوقت، ولكن عبدالرحمن فهمى علم أن هذه الأطيان يمتلكها محمد بك توفيق (شقيق أحمد شفيق باشا) وأندراوس بشارة باشا، وأن هذه الأطيان (متأخر عليها قسط سنتين للبنك العقارى الذي حل محله الدائرة السنية البائعة الأصلية، وأن البنك المذكور شرع في نزع ملكية هذه الأطيان)، كما علم عبدالرحمن فهمى أن صاحبى هذه الأراضى اشترياها بأربعين أو خمسة وأربعين جنيها، وأنه يراد بيعها للأوقاف بسعر الفدان خمسة وتسعين جنيها، وذلك ليستفيد المالكين بعض الشىء والبعض الآخر (لمن يلحون بإجراء هذا المشترى)، وكان الخديو شديد الحرص على إتمام هذه الصفقة إبان غياب أحمد شفيق باشا في أوروبا، نظرا لأن أحد المالكين كان توفيق بك شفيق باشا، حتى لا تؤدى الصفقة إلى حرج مركز شفيق باشا إذا تمت بعد حضوره.

ولكن عبدالرحمن فهمى اعترض على هذه الصفقة لأن الأوقاف (أموال العجزة واليتامى)، وغضب الخديو، كما أشرنا وأسرها في نفسه، وانتهى الأمر في عام 1913 بإحالة عبدالرحمن فهمى إلى المعاش وهو في الثالثة والأربعين من عمره.

لقد شئنا أن نسرد هذه التفصيلات حول تكوين وأعمال عبدالرحمن فهمى قبل قيام ثورة 1919 لأنها تلقى أضواء على شخصية هذا الرجل، ذلك أنه من أوضح جوانب هذه الشخصية اعتزازها بكرامتها وشدتها في الحق وإحساسها المرهف بالمسؤولية، كما أن عبدالرحمن فهمى اكتسب خلال عمله في خدمة الداخلية وانتقاله بين مراكز متعددة بين الوجهين القبلى والبحرى، معرفة واسعة بأحوال مصر وصلة واسعة بالشخصيات والأسر المصرية، أفادته كثيرا في ثورة 1919، كما كان عبدالرحمن فهمى على علاقة طيبة بجميع الأطراف الوطنية، فكان على صلة طيبة بسعد زغلول وعدلى يكن وبدوائر الحزب الوطنى، الأمر الذي أدى إلى إيقاعه في حرج شديد حين نشب الخلاف بين هذه الأطراف، ولم يكن عبدالرحمن فهمى راضيا عن الخلاف الذي نشب بين عدلى وسعد وظهور الأحزاب وتصارعها، وكان عدم رضاه من الأسباب التي أدت إلى انصرافه عن الوفد واعتزاله الحياة السياسية برمتها في 1925.

ذكرنا أن عبدالرحمن فهمى سافر سرا ومتخفيا سنة 1918 إلى السودان الشقيقة، واجتمع مع قادته من أجل القيام بعمل مشترك بين مصر والسودان ضد المستعمر البريطانى، الذي يتحرك ويلين فيقبل استقلال مصر التام، وهذا لن يتحقق إلا بالقوة والاتحاد ضده، وجاء سفر فهمى في السنة السابقة على اندلاع الثورة المسلحة العنيفة، ذلك أن فهمى، وكرجل عسكرى متمرس، ينبغى أن يكون مستعدا وبفترة معقولة لمواجهة أي حدث محتمل الوقوع، وقد صرح هو لزغلول بمسألة الاستعداد هذه رغم أنها أمر طبيعى لكل رجل دقيق وذكى، وذلك ضمن خطابين سريين أرسلهما له في 22 يوليو و15 أغسطس 1919 جاء في موضع فيهما «فكرت مع الإخوان المشتغلين في الحركة في ضرورة تشكيل لجنة من المصريين الأكفاء لتحضير اللازم لمقابلة لجنة ملنر، وكان القصد أن نحصر كل ما يلزم، ونكون على استعداد فيما إذا دعت اللجنة الإنجليزية لجنة الوفد».

وكان فهمى يتوقع بل يخطط لثورة المصريين المسلحة العنيفة التي تصل إلى وضع الانفجار عندما تحين ساعة الصفر، ويؤكد هذا وفى مذكراته نعرف أنه سيقودها، وكان الذين يأخذون بظاهر الأمور أثناء الحرب العالمية الأولى يعتقدون أن مصر راضية عن الحال التي آلت بعد إعلان الحماية عليها في عام 1914، لقد كان الإنجليز يسيطرون على الحكومة ويأمرونها فتأتمر، وكانت الأقوات والدواب تؤخذ من الفلاحين عنوة فلا يحركون ساكنا، والبلد هادئ والأمور سائرة إلى إذلالها لكن هذا الاعتقاد كان خاطئا، ويؤدى إلى عدم فهم الثورة المصرية على حقيقتها، فلو أن حقيقة الأمور كانت كظاهرها لما قامت الثورة في سنة 1919 أو لأخمدت بعد قيامها ببضعة أيام، ولكانت، كما قال كبير من كبراء الإنجليز، كشعلة تطفئها بصقة، أما الحقيقة فهى أن التي كانت تضطرم في نفوس الأمة المصرية قبل عام 1914 لم يخمد أوارها بل بقى وميضها خلال الرماد، وكان في الأمة طبقة وثقت بوعود إنجلترا التي قطعتها على نفسها لرجال الحكم في مصر وقت أن أعلنت حمايتها على البلاد، وذلك حتى خرجت ظافرة من معمعة الحرب العالمية، وكما كان في فصيل آخر قليل الثقة بهذه الوعود، ولكنها كانت ترى أن الظروف تحتم على الأمة أن تنتظر حتى يحين الوقت الملائم للمطالبة بحقوق البلاد، وفصيل ثالث يجهز بعدائه لإنجلترا وحلفائها، ويدعو الله جهارا أن يخذلها وينصر الأتراك وحلفاءهم الألمان، وقد تطوع من مكنتهم الظروف من هذا الفصيل في جيوش السنوسيين في الغرب وفى الجيش التركى الذي كان يعد لمهاجمة مصر من الشرق، لأنهم كانوا يعتقدون أن الفرصة لها قد سنحت لمصر لكسب حريتها والتخلص من الحكم البريطانى، فالحركة القومية المصرية إذا لم تخمد نارها في أيام الحرب، وإن هدأت إلى حين، فلما أتيحت الفرصة بعد إعلان الهدنة ظهرت هذه الحركة أمام أعين الناس قوية رائعة، إذ شهد منزل عبدالرحمن فهمى تخطيطه للثورة المسلحة واستمرارها حتى بعد القبض عليه في 1 يوليو 1920 وأصبح يقودها من السجن بشهادة أكبر رأس بريطانية في البوليس وهو الجنرال «ت. راسل» قومندان بوليس مدينة القاهرة، الذي استجار من فهمى وأرسل كتابا سريا في 10 يوليو 1922 (حصل عليه عبدالرحمن فهمى بواسطة رجاله وأعوانه في كل مكان) فقد أرسل (مستر راسل) إلى قيادته يستنجد بها من السجين السياسى عبدالرحمن فهمى بل يخلى مسؤوليته تماما من الرقابة والسيطرة على الجريمة السياسية في هذه المدينة، طالما أن مجرما سياسيا مثل عبدالرحمن فهمى يعيش في المستشفى كالدوق، ويحيك من المؤمرات ما يشاء من داخل أسوار السجن الحصين مما قاله راسل في خطابه السرى: «أما إذا كان في منزله فإننى أستطيع أن أضعه تحت الرقابة، وطالما أنه في السجن حرا يستطيع أن يفعل ما يشاء منذ الحكم عليه فإن عملى كان بدون فائدة، كما ذكر الأدلة التي تبين أن فهمى حر يفعل ما يشاء» وقال: إن المسؤولين في السجن يتعاطفون معه، وإن مسجونا رومانيا اشتكى من معاملته بالسجن وطلب معاملته مثل عبدالرحمن فهمى المصرى وليس معاملته كأوروبى وقال أيضا: «إن لدى عبدالرحمن فهمى كل الحرية في السجن وله غرفة مستقلة في المستشفى ويزوره زوار لا حصر لهم وبدون رقابة، وكذا فإن هناك مكاتبات ترد إليه ويرسلها دون أي رقابة، وحتى إن هناك سيدة تزوره كل يوم أحد».

وقد أكد عبدالرحمن فهمى في مفكرته الشخصية هذه الحقيقة فقال: «ولم يقصر تلك الحرية على وجوده في المستشفى بعد أن أضرب عن الطعام بل أيضا كانت له الحرية في السجن»، وكتب يقول «فى يوم 24 فبراير سنة 1921 أعلنت بالحكم وبدء تنفيذه يوم الخميس 26 منه، حيث نقلت من ثكنة قصر النيل إلى سجن مصر، ومنحت امتيازات كثيرة جدا كى أعامل بها ومنها لبس ملابس الملكية، وتناول غذائى من منزلى وأجد الكتب التي أريدها والفراش الذي أرغبه، وخصصت لى دورة مياه كما سمح لأولادى بزيارتى مرتين كل أسبوع، وكذلك سمح لى بمطالعة الجرائد وبعدم مراقبة خطاباتى إلخ... واستمر الحال هكذا حتى 22 يونيو وفى شهر يوليو من السنة المذكورة رحلت إلى سجن الإسكندرية، ونزعت منى كل هذه الامتيازات وعوملت معاملة المحكوم عليهم في قضية المؤامرة الكبرى، وأسيئت المعاملة جدا جدا إلى أن من الله علىّ بعفوه وفرجه مساء الجمعة 8 فبراير سنة 24 أي بعد أن مكثت بالسجن من أول يوليو لغاية 8 فبراير سنة 1924والحمد لله على ذلك»، وقد تساءل الكثيرون عن التاريخ أو المدة التي كتب فيها عبدالرحمن فهمى مذكراته، ومنهم الدكتور يونان لبيب رزق، الذي تساءل عن مسألة كتابة عبدالرحمن فهمى هذه المذكرات وهو سجين، فهل عندما ذكر الجنرال راسل الخطابات الداخلة والخارجة من وإلى فهمى كان ضمنها تلك المذكرات؟ أشك في ذلك لأنه من الصعب جدا أن يكتب فهمى أي شىء ويعرفه الآخرون هكذا بسهولة، حتى وإن كان يحملها أولاده لقد كان غاية في التكتم والسرية.