بين الاقتصاد والتطرف

منار الشوربجي الثلاثاء 13-01-2015 21:36

فى أول يناير، كتب بول كروجمان مقالًا يؤكد فيه على العلاقة بين غياب العدل الاجتماعى وصعود التوجهات الفاشية فى العالم. وأهمية مقال كروجمان، أستاذ الاقتصاد الحائز على نوبل وصاحب المقال الأسبوعى فى النيويورك تايمز، لا تأتى من أنه قدم فكرة جديدة، وإنما تنبع أهميته من أن كاتبه هو بول كروجمان، المحسوب على الوسط السياسى عموما فى أمريكا، فالفكرة التى قدمها كروجمان فى مقاله قدمها من قبل عشرات الكتاب المنتمين لليسار فى العالم وفى أمريكا نفسها، ومقال كروجمان ينقل الفكرة من اليسار إلى عمق الوسط السياسى الذى تعبر عنه النيويورك تايمز التى نشر فيها المقال.

فالاقتصاد النيوليبرالى بما يفرضه من سياسات تقشفية تسعى لتقليص دور الدولة وتقليص دعم البرامج الاجتماعية مثل الرعاية الصحية والتعليم والنقل وإعانات البطالة التى تفيد الطبقة العاملة الفقيرة والمتوسطة، قد أدى لاتساع الفجوة على نحو غير مسبوق بين الأغنياء والفقراء وتركز الثروة فى يد فئة محدودة للغاية من الأثرياء فى كل مجتمع، مع اتساع القطاعات التى صارت تصارع لمجرد البقاء على حد الكفاف. ولتلك السياسات الاقتصادية تأثيراتها على السياسة بشكل مباشر.

فهى من ناحية تتطلب استخدام إجراءات سلطوية لتمرير مثل تلك السياسات الاقتصادية التى لا تحظى بشعبية، وتؤدى من ناحية أخرى، لإخراج قطاعات واسعة من الناس من قنوات التعبير السياسى المؤسسى، لأنهم يدورون فى طاحونة يومية من الكفاح من أجل الحصول على القوت والزاد. لكن القمع وطرد قطاعات بأكملها من السياسة لا يعنى بالضرورة منع الأفكار المتطرفة من النمو فى الفضاء السياسى طالما أن الطبقة التى تملك الثروة تصبح مالكة أيضًا للتأثير على صنع القرار الاقتصادى والسياسى بما يخدم مصالحها. وهو ما حدث ويحدث فعلا حول العالم من أوروبا للولايات المتحدة لدول الجنوب.

ومقال كروجمان يلقى الضوء على خطورة إخراج تلك القطاعات الواسعة فى كل مجتمع من السياسة، ليس فقط بمعنى انسحابها، وإنما بمعنى عدم تمثيلها فى عملية صنع القرار. فرغم أن المفترض أن تمثل أحزاب اليسار تلك القطاعات خصوصا حين تصل للسلطة، يقول كروجمان إن كل ما يحصل عليه هؤلاء من مثل تلك القيادات «بدءا من فرانسوا أولاند فى فرنسا وإد ميليباند فى بريطانيا، بل وأوباما فى أمريكا هو غمغمات عجيبة»، لأنهم «يخشون تحدى أولويات النخب»، الأمر الذى يفتح الباب لزعامات غير تقليدية ذات أفكار «مخيفة، على استعداد للتعبير عن غضب المواطنين العاديين ويأسهم»، وهو يقصد طبعا الفاشية والنازية التى عادت بقوة فى أوروبا وغيرها.

لكن لعل أخطر ما قدمه كروجمان فى مقاله هو تلك المقارنة التى عقدها بين المرحلة الحالية وثلاثينيات القرن الماضى. فهذه هى «المرة الثانية التى يواجه فيها العالم أزمة مالية عالمية تتبعها فترة ممتدة من الانحسار الاقتصادى. وقتها مثلما هو الحال اليوم، عرقلت النخب أى حل فعال للأزمة عبر إصرارها على أولوية عجز الموازنات واستقرار العملات. وكانت النتيجة هى تسليم السلطة» فى الثلاثينيات لتلك الأيديولوجيات الفاشية. ورغم أن كروجمان يؤكد أنه لا يقصد أن التاريخ سيعيد نفسه، إلا أنه يحذر القيادات من الاستسلام للنخب وأولوياتها على حساب أغلبية شعوبها.