«الخطوبة».. وللأحداث العادية تفاصيل خاصة

كتب: أحمد الهواري الإثنين 12-01-2015 21:35

«اسكت أرجوك، سأفعل كل ما أريد، وأرجوك أن تسكت».

«لا.. لا تقم الآن.. جفف عرقك قبل أن تخرج. قد يصيبك البرد فى الخارج».

بالجملة الأخيرة، أنهى الأب حواره مع الشاب الذى طلب يد ابنته «ليلى» بعد أن قدم له عرضا لا يمكن رفضه فى قصة «الخطوبة» لبهاء طاهر. العرض حقق فيه المفاوض- الأب انتصارا على غريمه بما يمتلكه من «شائعات» لا نعرف صحتها ولا مصدرها، والتى، على الرغم من نفيه الاعتقاد بصحتها، تظل أدوات قوية تعطيه سلطة فرض ما يريده، بالطريقة التى يريدها.

تتجلى عبقرية «الخطوبة» التى كتبها طاهر عام 1968 ونشرت فى مجموعة قصصية تحمل الاسم نفسه عام 1972، فيما تستدعيه إلى الذهن بعد قراءتها على الرغم من بساطتها. شاب موظف فى بنك، يتقدم لخطبة زميلة له يحبها. يلتقى بالأب الذى لا نعرف مهنته بالتحديد، والذى يرفض الزيجة، لكنه يريد فى الوقت نفسه ألا تعرف ابنته برفضه حتى لا تتشبث بالشاب أكثر. فينتقل إلى دور المفاوض مستخدما «الشائعات» وأسلوب ثابت فى الحديث، مساومته للشاب بترقيته فى عمله بعلاقاته التى لا نعرف مصدرها أيضا، مقابل أن ينفذ المطلوب منه.

قصة من الممكن أن تتشابه مع قصص أخرى، فتنتهى من قراءتها دون جهد يذكر، لكن بعد الانتهاء منها ترى تفاصيلها تنشب مخالبا فى ذهنك، ولا تتركه بسهولة. لا تتطابق الصور الآتية من الذاكرة بالضرورة مع الصور التى تشكلها القصة بمفرداتها المباشرة، ولكن بتفاصيلها. شاب يحدد له موعدا عاديا للتقدم لطلب يد زميلة له فى العمل، يدخل منزل والدها، ويجد نفسه وحيدا فى غرفة، ينتظر فترة، ولكنه يقف فى مكانه عندما يفتح الباب فجأة مع وصول الأب، أو موجه الأسئلة.

إلى هذه النقطة تبدو التفاصيل عادية، ولكن الطرف الآخر المستتر وراء «قيمص وبنطلون ونظارة طبية وخف منزلى» دون مزيد من التفاصيل، هو زائر خيالك القادم. يسأل الشاب إذا ما كان يريد فتح «الشيش» أم لا. وعندما يترك له الأمر لا يرد عليه. طرف يعرف ما يريد من القادم، ولكنه لا يفصح فى البداية. يصبر عليه حتى يشرب «الليمون» قبل أن يبدأ فى مطاردته. يتركه يتحدث فى البداية قبل أن يوجه له الأسئلة التى يعرف إجاباتها مسبقا. يسأل الشاب ليؤكد له أنه لا يعرف عن حياته قدر ما يعرف السائل.

تتفاعل الأشياء التى يعرفها المفاوض صاحب السلطة فى منزله مع طريقته فى تجاذب أطراف الحديث- الاستجواب لتطارد الخيال بعد الانتهاء من القراءة. يبدأ الحديث بـ«سألت عنك، وأنا أعرف الكثير من البيانات». يسأله مرة أخرى «هل أفتح الشيش؟» وعندما يرد «إذا أردت» ينظر له ببطء ويوجه له المزيد من الأسئلة، يبدأ فى محاصرته. معرفته وسلطته فى المكان تدفعه للمزيد من الأسئلة التى لا يعرف الشاب إجابتها، ويعرفها هو.

تبلغ سطوة المحقق/الأب مداها حتى يطلب من الشاب الدليل على أن أنه لا يعرف ما يقول أنه لا يعرفه. لا يمر بذهن الخطيب أن «البينة على من ادعى» فالآن هذا الرجل يعرف عنه أكثر مما يعرف عن نفسه. ويهدأ الشاب حين يطلب منه أن يخفض صوته، يكتشف أن وجهه مبتل بالعرق الغزير، يحاول أن يفتح ياقة قميصه ولكن أصابعه تتعثر فى زرارها المحكم فيكتفى بأن يحل ربطة العنق قليلا. يثمر حصار الأسئلة عن تطوع المحاصر بذكر إجابات لم يكن ليعرفها السائل، مثل واقعة تبديد أموال برأته منها النيابة فى التحقيقات. ويضيق الخناق عليه حتى يريد الهرب، وعندما يفتح له باب الخروج بشروط يوافق ويهرب سريعا ويتعثر فى السلم أثناء نزوله، ويسقط على وجهه، ويقم بسرعة، ويهدأ، ويخرج إلى الهواء البارد فى الخارج.

تفاصيل صراع إرادة، معلومات مختلطة بشائعات مصادرها غير معلومة، محقق لا تعرف عنه شيئا، ويعرف عن الشاب أكثر مما يجب، فيشعر الآخر بالضيق، وبالخوف، يعرق، ربما يبكى، يقبل العرض، ويهرب. تتشبث تلك التفاصيل بذهنك بعد أن تنتهى من قراءة القصة بأيام، وتستدعى من ذاكرتك صورا مشابهة لتلك الحالة، فتنسى أن هذا الشاب كان متوجها لخطبة زميلته فى العمل، وتظل تتساءل عن كل ما تذكرك به تلك التفاصيل، والأماكن الأخرى التى تدور بها تلك الأحاديث.

سوف تتذكر نهاية القصة وهذا الشاب يعود إلى المكان الذى هرب منه منذ لحظات مرتبكا خائفا غارقا فى عرقه، ويبدأ فى صعود السلم من جديد. وتتساءل: بماذا ينبئنى هذا؟ وقبل أن يعمل ذهنك على إجابة هذا التساؤل يجب أن تعلم أن القائمين على السلطة لم تعجبهم الإجابات التى يطرحها هذا التساؤل، فكانت تلك القصة من أهم الأسباب التى أدت إلى منع «بهاء» من العمل، وتضييق العيش عليه حتى اضطر إلى ترك مصر.