ما بين فرز القمامة وانتظار تاجر الخردة يقضى محمود، الشاب الثلاثينى، يومه المتكرر الذي يعيده بتفاصيله ذاتها كل يوم. إصابته بحساسية الصدر لم تمنعه من التوقف عن عمله، فهو لا يستطيع الاستغناء عن «الشغلانة» التي لا يجيد غيرها.
في صباح كل يوم يقطع محمود مسافة طويلة من قريته «تلبانة» حاملاً شكائر بلاستيكية أعلى عربته الكارو، لم يتوقف يوماً واحداً عن عمله، ولم يضع في حسبانه غلق المقلب مصدر رزقه الوحيد للإنفاق على أسرته.
في مدخل قرية «سندوب» بمحافظة الدقهلية، يستقبل الوافد رائحة دخان تتصاعد من تلال القمامة المحترقة، ونباح العشرات من الكلاب الضالة، بينما يتوسط المشهد عدد من النساء والرجال والأطفال الذين تختفى ملامحهم وراء ذرات الرماد المتطاير، تترأسهم سيدة ستينية تدعى «أم حمادة»، المتعهدة الأولى في فرز القمامة بمحافظة الدقهلية. بجلبابها الفضفاض تجلس في مدخل المقلب تتابع عن قُرب فرز العمال للقمامة، وبلهجة حادة تصدر تعليماتها إلى عمال الفرز بفصل المخلفات الورقية، والبلاستيكية، والصلبة.
أربعون ألف جنيه تدفعها أم حمادة شهرياً لحى غرب مدينة المنصورة مقابل استئجار المقلب وفرز القمامة، في الوقت الذي تتقاضى فيه 3000 جنيه شهرياً من الحى مقابل رفع القمامة من مدخل المدينة إلى أعلى المقلب، وهو «مبلغ لا يكفى استئجار معدات رفع القمامة»، بحسب قولها. تضيف: «نستقبل يومياً حوالى 1200 طن من القمامة، يعمل في جمعها 30 أسرة تقريباً، ونتقاضى من الحى 3000 جنيه مقابل رفع القمامة من مدخل المدينة لكنها لا تكفى مصاريف معدات رفع القمامة أو الإنفاق على العمال».
العمل في فرز القمامة لا يفرق بين صغير أو كبير، فوسط تلال المخلفات يقف مسعود الذي لم يتجاوز الخامسة من عمره «ينبش» بكفيه الصغيرتين بصحبة شقيقته هدى، ابنة الرابعة، بعد أن يصطحبهما والدهما سعد ووالدتهما قمر يومياً إلى المقلب حتى يتوارثوا المهنة الشاقة، يقول سعد: «أنا راضى بحالى طول عمرى، بشتغل في فرز الزبالة والحياة صعبة ومنعرفش شغلانة غيرها، الست أم حمادة كويسة معانا بتدينى يومية كويسة مش هنلاقيها في أي شغلانة تانية».
«مش هيكون قدامى غير حل من الاتنين، إما السرقة أو التسول»، بهذه الكلمات الحادة يبدأ حديثه، محمود عزت، أحد جامعى القمامة، واصفاً حاله وحال باقى جامعى القمامة إذا نقل المقلب إلى مكان بعيد، يقول: «أنا مش حرامى بمد إيدى في جيوب الناس علشان أسرقهم، أنا مواطن ليا حقوق وواجبات على الدولة اللى عايش فيها، مش كفاية إننا بنفرز زبالة الناس وشغالين على باب الله وراضيين بحالنا، بس الناس مش سايبانا في حالنا وعاوزين يحاربونا في أكل عيشنا».
قطع الطريق كان الوسيلة الوحيدة أمام العشرات من الأهالى من القرى الملاصقة لمقلب قمامة «سنديون»، بعدما ضاق بهم الحال من عدم حل مشكلتهم بنقل المقلب بعيداً عن الكتلة السكنية، يقول أحمد بهجت، أحد الأهالى: «ميرضيش ربنا اللى إحنا فيه، مقلب سندوب يستقبل يومياً ما بين 500 و600 طن مخلفات من أحياء غرب وشرق وقرى مركزى المنصورة وطلخا. يصل ارتفاع المقلب إلى ما يزيد على 35 متراً، وإحنا وحدنا اللى بندفع فاتورة إهمال وزارة البيئة».
تنص المادة 87 من القانون رقم 9 لسنة 2009 في شأن حماية البيئة في فقرتها الثالثة على معاقبة كل من يقوم بإلقاء أو معالجة أو حرق القمامة قريباً من المجمعات السكنية بغرامة لا تقل عن ألف جنيه ولا تزيد على عشرين ألف جنيه، وفى حالة التكرار تصل العقوبة إلى الحبس والغرامة معاً، يصف أحمد ممدوح هذه المادة بـ«الحبر على الورق» يقول: «لا يوجد أي قانون يطبق بخصوص حرق القمامة، نستنشق يومياً الأدخنة المتصاعدة من المقلب، وأرسلنا عدة شكاوى إلى جهاز شؤون البيئة والمحافظة، ولم يستمع لنا أحد ولا تأتى أي حملات تفتيش من البيئة لتفعيل القانون، وهو ما يؤكد أن هذه القرارات حبر على ورق».
لا تنتهى مخاطر مقلب «سندوب» عند حد اقترابه من المناطق السكنية، إذ يحيط المقلب بعدد من المصانع التي يشتغل بها المئات من العمال، ويقترب من المستشفى العسكرى الجديد وهيئة التأمين الصحى التي يتردد عليها العشرات من المرضى يومياً. يقول أحمد محجوب، واحد من الأهالى: «زارت ليلى إسكندر، وزيرة البيئة السابقة، مقلب سندوب، العام الماضى، وأوصت بنقل المقلب بسبب ما يشكله من خطورة على السكان، واستقبلنا هذا الخبر بالفرحة، إلا أننا فوجئنا بتجميد القرار واستمرار المقلب في مكانه».
كذلك تزايد أعداد المصابين بالربو وحساسية الصدر فتح المجال لفتح العشرات من الصيدليات في القرى القريبة من مقلب «سندوب»، تقول نجلاء، واحدة من الأهالى: «مافيش حد في سندوب ونواحيها إلا وصدره تعبان بسبب حرائق مقلب الزبالة، البلد اللى كان فيها صيدلية واحدة بقى فيها عشرات الصيدليات علشان تصرف أدوية حساسية الصدر»، وتطالب نجلاء بحضور وزير الصحة لزيارة المقلب، «لو كان يرضيه يعيش يوم واحد جنب المكان احنا موافقين نكمل باقى عمرنا بجوار المقلب».
عدم توفير معدات لجامعى القمامى تسهل عملية إعادة تدويرها هو أحد أسباب اشتعال النيران الدائم في مقلب «سندوب»، إلى جانب تراكم القمامة لفترات طويلة. يكن أحمد، أحد جامعى القمامة، ينفى إشعال النيران في المكان، مؤكداً أن مهمته تقوم على فرز القمامة، فقط، بينما تشتعل النار ذاتياً في القمامة لتراكمها لفترات طويلة، وعدم توفير معدات لإعادة تدويرها من جانب المجلس المحلى، يقول: «مش معقول نولع في الرزق بتاعنا، إحنا شغلتنا الفرز لكن الحرق بيقوم بيه عمال المجلس المحلى علشان يتخلصوا من القمامة اللى قافلة الطريق».