فى أجواء تشبه رواية «دان براون» الشهيرة "شفرة دافنشى" تأتى أحداث رواية «العظام المقدسة» Sacred Bones للكاتب الأمريكى «مايكل بايرنز»، التى صدرت ترجمتها العربية منذ أيام عن دار ميريت للنشر، ونقلها للعربية الزميل الصحفى «إيهاب الزلاقي» وهى الرواية التى تدور أحداثها داخل مدينة القدس وخلف أسوار مدينة الفاتيكان، فى رحلة مذهلة عبر الزمن والحضارات والديانات السماوية الثلاثة، ولا تنسى فى الوقت نفسه أن تلقى الضوء على لقطات الحياة اليومية لأبناء القدس فى تقاطعها الدائم مع الإسرائيليين، فى مزيج مدهش لا يغفل الإثارة والتشويق والحبكة الدرامية العالية.
أدهش «مايكل بايرنز» النقاد عندما صدرت رواية العظام المقدسة، لأنها كانت روايته الأولى، ورغم ذلك جاءت محكمة حافلة بكل عناصر التشويق التى يسعى وراءها القارئ المعاصر، كما حملت وراءها مجهودا ضخما فى البحث والتنقيب وراء أحداث تاريخية موغلة فى القدم تعود إلى عصر السيد المسيح مرورا بالحملات الصليبية على القدس وانتهاء بالعالم المعاصر حيث يسود صراع قاسى يمزج بين الدين والسياسة على أرض فلسطين محوره المسجد الأقصى.
وبشكل روائي صرف، يتحرك «بايرنز» بحرية بالغة، ليتحدى الكثير من المفاهيم المستقرة لدى اتباع الديانات الثلاث السماوية، ويربط القديم بالحديث، ويعود بأسباب الصراعات الحديثة إلى نقاطها الأولى، عبر مجموعة متنوعة من الشخصيات المختلفة تماما ولكنها تلتقى فى لحظة محورية عندما يقوم مجموعة من المرتزقة بعملية جريئة فى مدينة القدس القديمة لسرقة قطعة أثرية تستقر في غرفة سرية أسفل المسجد الأقصى، وتخلف هذه العملية 13 جنديا إسرائيليا قتلى، وطائرة إسرائيلية مفقودة، وأسئلة لا تنتهى يجب الإجابة السريعة عنها قبل انفجار العنف فى قلب مدينة القدس.
يبرع «بايرنز» إضافة إلى التشويق، فى كتابة مجموعة متنوعة من الشخصيات يمنحها جميعا بعدا إنسانيا يتجاور فيه الخير بالشر، ودون كتابة نمطية معتادة، فالراهب الفاتيكانى «دونافان» رجل السلام يأتى من شوارع بلفاست حيث الصراع الدامى بين الكاثوليك والبروتستانت، والأب «سانتللى» وزير خارجية الفاتيكان متمرس فى المؤامرات، وعلى الجانب الآخر نجد «رزاق» المفاوض العربي الشريف ورجل المبادئ، و«فاروق» حافظ الوقف الإسلامى والمناضل القديم الذى يحاول تحقيق أهدافه بغض النظر على الوسائل، وهناك الشخصيات الإسرائيلية، وعالمة الجينات الأمريكية، وعالم الآثار الانجليزى، وخبير الانثربولوجى الإيطالى، وهى شخصيات لم تكن تلتقى أبدا فى أرض الواقع ولكن «بايرنز» يجمعها سويا فى مغامرة تتجاوز حدود المألوف.
تنتمى الرواية إلى أدب "الأكثر مبيعا" Best Sellers وهى الأعمال الروائية التى تحقق أرقاما بالملايين فى التوزيع، ويقف على رأسها حاليا مجموعة من أبرز الكتاب ربما يكون أشهرهم فى الوقت الحالى «دان براون» و«ستيفن كينج» و«نيلسون دى ميل» والعشرات غيرهم، وهذا النوع من الأدب الذى تفتقده المكتبة العربية بشدة، يعتمد على الإنطلاق من أحداث تاريخية أو واقعية ثم يعيد مزجها بالخيال مع شخصيات الرواية، ولا يمكن إغفال جانب الإثارة والحركة فى هذا النوع من الكتابات التى تتحول فى الأغلب إلى أفلام سينمائية ضخمة تنتجها هوليوود، ومع افتقاد المكتبة العربية هذا النوع من الروايات يصبح البديل الوحيد هو قراءة هذا النوع مترجما، وربما يفسر ذلك حالة النشاط البالغ حاليا فى ترجمة عشرات الروايات من هذه النوعية إلى العربية.
لكن المؤسف، أن العديد من الترجمات العربية، ولأسباب تتعلق بالتوزيع وثقافة القارئ العربى، تقوم فى الكثير من الأحيان بخيانة النص الأصلى، والتصرف فيه بشكل يسئ للكاتب والمترجم، ويعود هذا الأمر فى الأغلب إلى حساسية بعض الموضوعات التى تطرحها هذه الروايات، أو تماس الروايات مع بعض "التابوهات" السياسية والدينية، وبطبيعة الحال، وبغض النظر عن أخلاقيات احترام النص الأصلى، تفقد مثل هذه الترجمات النص المترجم الكثير من عناصره، ولكن رواية «العظام المقدسة» تم نقلها للعربية بأمانة تامة رغم الحساسية الشديدة فى موضوعها، الذى يتماس مع الكثير من الاعتقادات الدينية والسياسية على حد السواء.
يلعب «بارينز» بأوراقه في الرواية ببراعة، فالأحداث تكشف الأسرار تدريجيا، فى الوقت نفسه، تتصاعد الدراما مما يجعل القارئ متشوقا لمطالعة الصفحات التالية، وتبلغ براعة الكاتب الأمريكى ذروتها مع نثر الكثير من التفاصيل الواقعية الصغيرة طوال الرواية الأمر الذى يمنح الأحداث بعدا آخر، مثل عرض عملية اغتيال «يحي عياش» القائد العسكري فى حماس وهى قصة حقيقة لكنه يربطها بشخصياته المتخيلة فى الرواية، ويرصد عملية إحراق آخر قادة "فرسان المعبد" فى باريس على يد الملك «فيلب الرابع» لكنه أيضا يعرضها ضمن سياق الرواية بحيث لا يمكن فصلها عنه، ونلمح إشارات سريعة لقناة الجزيرة والتليفزيون الفلسطينى، والشاى بالنعناع، والعرض الأمين لمتاحف الفاتيكان وقطعه الأثرية، وطريق الآلام فى القدس، والجدل الذى لا ينتهى حول تفسير الأناجيل.
رواية «العظام المقدسة» حققت نجاحا كبيرا عند ظهورها باللغة الإنجليزية للمرة الأولى عام 2007، الأمر الذى دفع «بايرنز» إلى كتابة جزء ثان منها صدر منذ أسابيع وحمل عنوان "الدم المقدس" Sacred Blood يحقق أيضا نجاحا كبيرا، ويحسب للمؤلف الأمريكى تعامله بواقعية مع الشخصيات العربية الإسلامية فى روايته دون الاعتماد على الصورة النمطية مسبقة أو صورا منقولة من الإعلام الأمريكى، كما يحسب كذلك فكرة الرواية التى يتخذها إطارا لطرح الكثير من الأفكار المعقدة حول الدين والتاريخ والسياسة والتى تنطلق جميعا من هيكل عظمى يعود تاريخه إلى القرن الأول الميلادى وتحمل عظامه علامات صلب واضحة لا تخطئها العين.