الدستور والرئيس والبرلمان

محمود أباظة السبت 03-01-2015 21:17

صدر قانون تقسيم الدوائر، وتحددت ساحات المعركة، وأخذت الأحزاب والقوى السياسية والشخصيات العامة وغيرها تسابق الزمن استعدادًا للمعركة، ولا عجب فى ذلك.

ولكن العجب كل العجب من موقف الرئيس وحكومته، فكلاهما يصر على الابتعاد عن المشاركة فى هذه المعركة وكأن المشاركة نقيصة تعيب. والأغرب من ذلك أن هذا التباعد يبدو للبعض سُنة ديمقراطية حميدة، بينما هو فى حقيقته إنكار للديمقراطية وإهدار للدستور.

دستورنا القائم لم يأخذ بالنظام البرلمانى الذى يجعل من رئيس الدولة رمزًا بروتوكوليًا لا شأن له بالعمل السياسى. ولم يأخذ أيضًا بالنظام الرئاسى الذى يعهد إلى الرئيس بالسلطة التنفيذية برمتها. وإنما أخذ بالنظام المختلط أو شبه الرئاسى، وهو يجمع بين رئيس جمهورية منتخب مباشرة من الشعب، بالإضافة إلى مجلس وزراء مسؤول أمام البرلمان، ولا يتولى سلطاته إلا بعد حصوله على ثقة أغلبية أعضائه، كما أن الرئيس لا يستطيع أن يقيل الوزارة إلا بعد موافقة الأغلبية البرلمانية.

دستورنا جعل السلطة التنفيذية تتكون من فرعين: رئيس ومجلس وزراء، كلاهما يستند إلى إرادة شعبية، مباشرة بالنسبة للرئيس ومن خلال المجلس النيابى بالنسبة لمجلس الوزراء. وقد حرص الدستور على أن تكون أغلب اختصاصات السلطة التنفيذية مشاركة بين الرئيس ومجلس الوزراء، بحيث لا يجوز لأى منهما أن ينفرد بالسلطة دون الآخر. وبهذه الثنائية حقق الدستور توازنًا أولًا داخل السلطة التنفيذية نفسها، وثانيًا بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. هذا التوازن الذى افتقدناه فى الماضى يقتضى حتمًا توافقًا بين الرئيس والحكومة حتى تستطيع السلطة التنفيذية أن تؤدى دورها. وغنى عن البيان أنه فى حالة وجود أغلبية برلمانية لا تلتزم ببرنامج الرئيس الذى انتُخب على أساسه ولا تؤيده فإن الحكومة بدورها، وهى تعبر عن هذه الأغلبية، لا يمكن أن تتوافق مع الرئيس. ومقتضى ذلك ولازمه أن الرئيس وحكومته لا يمكنهما إهمال الانتخابات البرلمانية، فعلى الرئيس أن يسعى سياسيًا وعلنيًا إلى الحصول على أغلبية برلمانية تلتزم ببرنامجه وتسانده، وذلك لسببين، أولًا: هذه الأغلبية ضرورة ليستطيع أن ينفذ البرنامج الذى وعد به ناخبيه وحاز على ثقتهم لتحقيقه، ومن ثم فإن السعى إليها واجب تفرضه الأمانة وتتطلبه القواعد الديمقراطية. ثانيًا: فى حالة وجود أغلبية برلمانية مخالفة للرئيس نكون بصدد أزمة دستورية لا حل لها إلا باللجوء للشعب فى استفتاء لحل المجلس وإجراء انتخابات جديدة، وبالتالى فإن السعى إلى الحصول على أغلبية برلمانية هو السعى لتجنيب البلاد أزمة دستورية تقتضى الحكمة تفاديها.

لكل ما سبق، فإن الرئيس وحكومته لا تحق لهما فقط المشاركة فى المعركة الانتخابية البرلمانية، بل تحق عليهما تلك المشاركة فى إطار نظامنا الدستورى الذى يجعل من الانتخابات الرئاسية والانتخابات البرلمانية مرحلتين متتاليتين من عملية سياسية واحدة هى لب الديمقراطية، أى اختيار الشعب لمن يحكمه. فإما أن نحترم الدستور ونطبقه على الواقع القائم، وإما أن نكتفى بالواقع ونترك الدستور فى خزائن مغلقة حتى إشعار آخر.

الواقع القائم يقطع بأن شعبية الرئيس عبدالفتاح السيسى اليوم كفيلة بأن تحول دون أن تحصل أى قوة معارضة له على أغلبية فى البرلمان، بل حتى على أقلية مؤثرة. لذلك يرى البعض أن بُعد الرئيس عن العملية الانتخابية يسمح له بأن يظل منفتحًا على الجميع، وهذا صحيح على المدى القصير، إلا أن حكم مصر فى السنوات القادمة لن يكون نزهة فى حديقة غنّاء، والرئيس يعى ذلك جيدًا وقد صرح به مرارًا قبل أن يتولى منصبه وبعد ولايته. التحديات هائلة والأخطار محدقة والتضحيات القادمة أخطر من التضحيات السابقة. لذلك كله لابد أن يكون البرلمان القادم شريكًا فى المسؤولية، مقدما على تحملها، مدركا دوره فى عملية الإنقاذ الوطنى التى دعا إليها الرئيس وحصل على تفويض من الشعب لإنجازها.

فهل يستطيع الرئيس وحكومته التزام الصمت فى المعركة البرلمانية القادمة؟

هل فى استطاعة الرئيس أن يلقى ببرنامج الإنقاذ الوطنى فى بحار الصدفة أو الفوضى؟

الدستور يفرض عليه أن يسعى للحصول على أغلبية برلمانية حتى ينضبط سير الأمور. فعلى الرئيس أن يحدد معالم الطريق، وعلى الحكومة أن تُعبِّد هذا الطريق وتُفصِّله للناخبين باعتباره برنامج الرئيس الذى انتخبه الشعب على أساسه فى مرحلة سابقة من خارطة المستقبل. ومن واجب كل مرشح، حزبًا كان أو فردًا، أن يُفصح عن موقفه من برنامج الرئيس، مؤيدًا كان أو معارضًا، حتى يتمكن الشعب من الاختيار على بيّنة بالمواقع والنتائج. وعلى هذا الأساس من الطبيعى أن تنعقد أو تنحل التحالفات. إننا نطالب جميع الأطراف بالإفصاح عن مواقفها ابتداء من الرئيس وحكومته، ومرورًا بالأحزاب والقوى السياسية والمرشحين المستقلين، وانتهاء بوسائل الإعلام التى تحتاج إلى هذا الإفصاح حتى لا تخوض فى تيه عظيم. إننا نطالب برؤية واضحة للمستقبل الذى نريده ونرضاه. نطالب بالخروج من هذا الغموض الذى نحار فى فهم معناه.