ومع أن المدينة نصفها من البروتستانت، يعنى المسيحيين السلفيين.. ونصفها من الكاثوليك، إلا أن طابعها التسامح و«بون فيت» على كل لسان، يعنى عيد سعيد، والغريب يا أخى أنه يهنئك بالعيد دون انتظار فتوى من دار إفتاء الفاتيكان لتقول له إنه يجوز تهنئة غير المسيحى.. والواحد منهم يهنئك من القلب وبشكل حقيقى وود غير مفتعل.. وقد شعرت بالوجد والانبساط والكل يهنئنى بالعيد دون سابق معرفة.. وتصورت فى البداية أنهم يخصوننى بالتحية والتهنئة لأننى أجنبى وهم يكرمون الضيف.. لكنى اكتشفت أنهم هكذا على طبيعتهم.. الواحد يهنئك بالعيد دون أن يطلب الاطلاع على أوراقك ليعرف ديانتك قبل التهنئة.. وأخشى أن أمد الخط على استقامته فأقول إن ديانتهم ديانة سماحة وقبول للآخر بحق وحقيقى.. عكس الديانة الجديدة التى يفرضونها علينا فى بلاد نائمة فى العسل، والتى تنتظر فتوى الإفتاء لتهنئ الجيران والأصحاب والمعارف والزملاء فى الشغل!
المواطن فى بلاد الخواجات كامل الأهلية بصرف النظر عن ديانته.. لا فارق بين مواطن وآخر سوى بالشغل والإنتاج.. لا يوجد عندهم خواجة متنطع وظيفته فرز المواطنين.. هذا مسيحى وهذا غير مسيحى.. يوزع عليهم صكوك الغفران وشهادات دخول الجنة!
الكل هنا سواسية كأسنان المشط.. والمواطن عندهم جدير بالاعتبار والاحترام بصرف النظر عن ديانته أو وظيفته.. مع أنهم مجتمع رأسمالى فيه الكبير وفيه الصغير.. وعندهم مليارديرات بحق وحقيقى وأغنياء وأصحاب أرانب.. وفقراء نص نص.. وعندهم وزراء وصنايعية وباعة جائلون وأساتذة جامعات وطلاب وجنرالات وكمسارية.. وعلى لسان كل منهم بمناسبة موسم الأعياد عبارة «بون فيت».. وكل واحد فى حاله.. وكل واحد يفعل ما يريد.. وفى صحتك ينفق الخواجة سنوياً مائة مليار دولار.. ولا أقصد لزوم الصحة والدواء والأطباء والمستشفيات.. وإنما أقصد فى مسائل الفرفشة والنعنشة والمشروبات الكحولية التى لا أعرف لماذا يشربونها وعلى لسانهم عبارة فى صحتك.. مع أنها ضارة جداً بالصحة.. لكنهم ينفقون عليها مائة مليار، منها عشرة مليارات تنفق فى رأس السنة وحدها.. لشراء الشمبانيا لزوم الضحك والرحرحة فى هذه الليلة بالذات. وتنفق أوروبا وحدها عشرة مليارات للمحار والفواجرا أو كبد الأوز.. بالهناء والشفاء و«هابى نيو يير».. أو عيد ميلاد سعيد، كما نقول بالبلدى الفصيح.. وفى سويسرا، أو فى جنيف تحديداً، يستقبلون العام الجديد بطريقة مبتكرة، ولولا الملامة لشاركت فى سباقهم السنوى يوم 31 فى البحيرة التى على وشك التجمد.. وينظمون سباق السباحة لمسافة مائتى متر، وليس المهم من يكسب السباق.. المهم أن تشارك.. والغريب أن السباق لا يشترك فيه المجانين وحدهم، بل يشارك العقلاء أيضاً ويقسمونهم إلى أربع فئات.. الشباب والشابات والأطفال ثم العواجيز.. والخيبة أن السباق كامل العدد.. ومحسوبكم يكتفى بالفرجة والتشجيع..
فى باريس سهراتهم معظمها داخل البيوت التى تستعد لهذه الاحتفالات بالزينة والأضواء وشجرة عيد الميلاد.. أما الشباب والغرباء ومحترفو الصرمحة فالسهرة عندهم فى الشانزليزيه، أشهر شوارع باريس، الذى يشهد احتفالات صاخبة تتوقف قليلاً قبل الثانية عشرة مساءً للعد التنازلى استعداداً للعام الجديد.. عشرة.. خمسة.. ثلاثة.. اثنان.. واحد.. هييه كل سنة وإنت طيب، وبون فيت يا سيد، والكل يقبل الكل ابتهاجاً بالعام الجديد.
مبروك لإخوتنا المسيحيين.. مبروك للإخوة الخواجات.. احتفالاتهم الصاخبة بالعام الجديد.. اللهم لا قر.. اللهم لا حسد.. ومن حقهم الفرح والانبساط والشرب والفرفشة.. طبقاً لعاداتهم ومن حر مالهم، فهى شعوب تجيد الفرح والانبساط.. ولسنا أبداً فى موضع الحكم والانتقاد.. وبون فيت علينا جميعاً!!