طه حسين يخاطب أغنياء مصر

أحمد الجمال الثلاثاء 30-12-2014 21:34

قبل أن أواصل مع صاحب العقل الفذ والبصيرة النافذة، عميد الأدب العربى، الدكتور طه حسين، مقتبسًا بعضًا مما كتبه منذ 91 سنة، وبدا وكأنه يكتب عن حالنا الآن، بل إنه كتب- آنذاك- عن مادة الشريعة الإسلامية فى دستور 1923 وامتلك شجاعة لم تتكرر!، فإن سؤالا يطرح نفسه على كل من يحاول تشغيل عقله وحث بصيرته فى أيامنا هذه: (لماذا حُرمت مصر بصورة لافتة من الاستفادة من التراكم الزمنى لدرجة ظهر تاريخها فيها أقرب إلى خطوط بيانية قزمية متجاورة يبدأ كل منها من الصفر ليقف عند نقطة محددة معزولا عما قبله وعما بعده، فيما أن الطبيعى هو الخط البيانى الواحد المتصل المتحرك صعودا وهبوطا فيه قمم وقيعان، وكانت النتيجة الملحوظة هى أننا مجتمع بقى فى حالة انتقال وتحول عقودا طويلة، فلم تكتمل لنا مشروعات حضارية وثقافية، وصرنا وكأننا من قيل فيهم «كلما جاءت أمة لعنت من قبلها»؟!).

لقد كتب طه حسين- كما سبق أن أشرت فى مقال الأسبوع الفائت- بينما كان العميد فى باريس يوم 11 مايو 1923 بعنوان «العلم والثروة»، ومما قاله عن الرأسماليين فى أوروبا: «..ليسوا أنعاما ينقلون الثروة من جيل إلى جيل، وإنما هم ناس يملكون الثروة ويستثمرونها فيفيدون ويستفيدون، ليسوا عبيدا للمادة وإنما هم سادتها ويملكونها ويسخرونها لحياة الإنسان والترفيه عليه».. ويستكمل الأستاذ العميد حديثه عن العلم والثروة ويصل إلى بيت القصيد.. هو مصر، فتعالوا نقرأ ما كتبه سنة 1923: «..أما فى مصر فالثروة كثيرة ضخمة تنوء بالأغنياء، ولسنا نستطيع أن نذكر فقر العلم أو حاجته إلى المعونة، لأننا لا نستطيع أن نذكر العلم فى مصر، فليس لمصر علم وإنما هى فى علمها عالة على أوروبا وأمريكا، تستعير منهما ما هى فى حاجة إليه، أو جزءا موفورا مما هى فى حاجة إليه، لأنها لا تجد من المال ما يمكنها من أن تستعير هذا المقدار العلمى الذى هى محتاجة إليه لتعيش، أما إذا احتاجت إلى السيارات والدراجات والحلى وفاخر اللباس وبديع الأداة والآنية فما أكثر المال وما أيسر البذل، هنا تظهر ثروة الأغنياء ويظهر سخاؤهم.. نعم نحن أغنياء أجواد إذا احتجنا إلى متاع الدنيا، فأما إذا احتجنا إلى غذاء العقل والقلب ففقرنا لا يعدله فقر.. هناك علوم مزدهرة فى أوروبا وأمريكا ونحن لا نسمع بها فى مصر، إما لأننا لا نحاول أن نسمع بها، وإما لأننا نضع أصابعنا فى آذاننا حتى لا نسمع بها، فنحتاج المال لجلبها إلى بلادنا، ولكنى واثق بأن لونا من ألوان البدع فى الحلى أو الملابس أو السيارات أو الأزرار لا يكاد يظهر فى باريس أو نيويورك حتى نسمع به ونرغب فيه ونتهالك عليه، والنتيجة أننا فى حياتنا الظاهرة كأرقى الشعوب مدنية وحضارة، وربما كنا أفخر لباسا وزينة من أغنياء باريس ونيويورك ولندرا «لندن»، فإذا رآنا الأوروبى خيل إليه أننا ناس مثله نلبس كما يلبس بل خيرا مما يلبس، ونزدان كما يزدان بل خيرا مما يزدان، يحسبنا مثله إذا رآنا ولكنه لا يكاد يمتحننا ويخبرنا حتى يشعر بأن وراء هذه الزينة وهذه المظاهر الغناء أو شيئا يشبه الغناء.. وماذا تريد من قوم يجلبون من أوروبا كل ما ييسر عليهم الحياة المادية ويمكنهم من الاستمتاع بلذاتها المادية، فإذا ذكر العلم والأدب والفن هزوا الرؤوس والأكتاف، بل هم يفعلون شرا من هذا، فالعلم فى بلادهم ولكنهم يعمون أو يتعامون عنه.. لا يرونه ولا يشعرون به ويحسه الأوروبيون والأمريكيون على بعد الشقة، فيسعون إليه ويحملونه إلى بلادهم حتى إذا نبه منا نابه فأحس كما يحس الناس واشتاق إلى ما يشتاق إليه الناس وأراد أن يكون مصريا يعرف مصر كما يعرف الفرنسى فرنسا، اضطر أن يبحث عن مصر فى باريس أو لندرا «لندن» أو برلين.. يا للخزى.. بل قد يحتاج أن يبحث عن مصر فى أثينا!!.. لقد قلنا هذه الأشياء وقلناها وسنقولها ونقولها فلم يحفل بنا أحد ولن يحفل بنا أحد اللهم إلا جماعة الراغبين اليائسين وهم قليلون، فأما القادرون على أن ينفعوا.. فأما القادرون على أن يفيدوا بلادهم فهم من النفع والفائدة فى شغل، وما أنت والعلم تحدثهم به وتثقل عليهم فيه وهم أرغب فى هذا المتاع الباطل الذى يبهر العين ويخلب النظر ويحمل فلانا على أن يقول: لقد رأيت سيارة فلان ولأشترين مثلها.. ولكنه لا يقول رأيت عالما مصريا أو أديبا مصريا أو فنيا مصريا يروقنا أن يكون لدينا مثله.. وهذا شىء لا يخطر لأغنيائنا على بال، ولقد أكتب هذه الكلمة وأنا أثق الثقة كلها بأن كثيرا من أغنيائنا سيقرؤونها وينالون كاتبها بالسخط والنعى لأنه يحدثهم بما لا خير فيه».

ثم يتحدث عميد الأدب العربى عما جرى عقب إنشاء الجامعة المصرية «جامعة القاهرة الآن» وكيف أن الأغنياء تحمسوا قليلا، ثم حدث ما حدث، تعالوا نقرأ لطه حسين ما كتبه عام 1923: «لدنيا جامعة أنشئت منذ خمس عشرة سنة، ولولا لطف الله بها لماتت، على أنها ليست بعيدة عن الموت. ولقد أظهر أغنياؤنا ميلا شديدا إلى تأييد هذه الجامعة وإعانتها لأن ذلك كان بدعا يومئذ وكان فيه فخر للباذلين فلما انقضى البدع هبطت الرغبة وفتر الميل وحبس الذين بذلوا المال أموالهم فلم يعطوا ولم يفوا بما وعدوا أن يعطوا..

لا تذكر الحرب- يقصد الحرب العالمية الأولى- فإن الحرب لم تسئ إلى مصر ولم تنزل الفقر بأهلها، ولقد أساءت الحرب إلى فرنسا فزعزعت ثروتها وخربت جزءا عظيما منها، بل زعزعت نظامها الاجتماعى فلم يزدها ذلك إلا حبا للعلم وتشجيعا للعلم وإعانة للعلماء، ولم يضع عليها من ذلك شىء، فقد أتاح لها العلم أن تنتصر. أما أغنياؤنا فقد ضاعف الله عليهم ثروتهم أضعافا مضاعفة فلم يزدهم ذلك إلا ضنا وحبسا للمال عن وجوه الخير وتهالكا على اللذات المادية، والحكومة والأفراد فى ذلك سواء، فلست أنسى الوزارة النسيمية- نسبة لمحمد نسيم باشا رئيس الوزراء- وما أنفقت من المال لإصلاح سيارات الحكومة، فقد كان ذلك يكاد يبلغ نصف المليون من الجنيهات أما الجامعة فكانت الحكومة تعينها بألفى جنيه قبل أن تبلغ ميزانيتها- أى الحكومة- عشرين مليونا، فبلغت هذه الميزانية أربعين مليونا ولم تزد إعانة الجامعة، وإنما أنذرت الجامعة مرات بقطع هذه الإعانة...، ثم نحن نطلب الاستقلال ونزعم أن ليس بيننا وبين أهل أوروبا فرق، وأن من حقنا أن نستمتع بنظام الحياة الذى يستمتعون به، وقد يكون هذا حقا ولكن يجب أن نعترف بأن أهل أوروبا وأمريكا لم يصلوا إلى حياتهم الراقية الحرة بالتهالك على السيارات والحلى وملابس الحرير وما يشبهها وإنما وصلوا إليها بالتهالك على العلم والرغبة فيه، يجب أن نحمد الله على أن الدستور قد صدر، فلئن يئسنا من الحكومة ومن الأفراد فلن نيأس من الأمة ممثلة فى البرلمان ويقيننا أن هذا البرلمان لن يغفر فى المستقبل لوزارة المعارف مثل هذه الأغلاط المنكرة.. لن يغفر لوزارة المعارف ما وصلت إليه حال التعليم فى مصر من ضعف وفساد، ولن يغفر لوزارة المعارف أن تظل مصر من الجهل والضعف بحيث توجد علوم لا تسمع بها مصر ولا يأخذ المصريون منها بنصيب».

انتهى نص ما كتبه الدكتور طه ولا أدرى ماذا لو عاش وشاف أغنياء هذا الزمان بطائراتهم ويخوتهم ومليارات دولاراتهم.. وشاف أيضا أنه مع وزارة المعارف «التربية» وجد تعليم عال وبحث علمى ومع ذلك فالجريمة مستمرة.

a_algammal@yahoo.co.uk