لماذا تجتهد دار الإفتاء في استخراج الأدلة الشرعية المتواترة على جواز تهنئة المسيحيين بأعيادهم؟ ولماذا يتجدد هذا الجدل السخيف سنويا في مواقيت أعياد المسيحيين؟
أفهم جيدا أنه من واجب درا الإفتاء أن تقدم خدمة «الرأي الفقهي الشرعي» فيما استشكل على مسلمي مصر، وأدرك جيدا ضرورة أن تخرج فتاواها بالشكل الفني المتعارف عليه لإصدار الفتاوى ولإبداء الرأي الشرعي.
ولكن من الأحصف أن يتم اجتثاث هذا السؤال اللا إنساني من جذوره، ببيان لا بفتوى.
من ذا الذي يعتقد أن إسلامه وإنسانيته يسيران في طريقين مغايرين لبعضهما البعض؟ من ذا الذي يظن أن الإسلام يكبل عاطفة المرء السوية في حبه لجاره وصديقه غير المسلم، أيا كانت ديانته أو ملته؟
هل نحتاج لرأي الشرع في حبنا لبعضنا البعض، خلقَ الله في أرضه؟ وهل يمكن أن يعرقل الشرع عاطفةً إنسانية نزيهة لا غرض فيها؟
من الذي جعل الفكرة ممكنة أصلا في ذهن السائل؟ ومن الذي سوغ لمسلمين- الله وحده يعلم عددهم- أن يسألوا سؤالا يجافي الفطرة؟ وما هي الملابسات التي فهموا فيها أن مواددة غير المسلم أمر محل شك ومدعاة سؤال؟
نحن اليوم نجني ثمار الفهم المعلول للإسلام الذي تم زرعه بعناية في العقود الأخيرة.
أظن أنه كان من الواجب على دار الإفتاء أن تتوقف عن التدليل على جواز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم مكتفية بالقول بأن البديهي والإنساني، وما اتسق مع مرمى الإسلام دينا يحث على التعايش والمسالمة، يقضي قولا واحدا بجواز واستحباب التهنئة، ويحث حثا على كل فعل يقرب الناس من الناس ويزيد من أواصر المودة بينهم.
إن الاستسلام لطوفان الأسئلة العبثية التي تنطلق من فرضيات غير منطقية وغير إنسانية، ومحاولة الرد عليها والتأصيل لهذه الردود من بطون كتب الفقه، إنما يسبغ عليها شرعية ما ويجعلها تساؤلات منطقية، تكتسب قوة واقعية.
وسيظل طرح هذه النوعية من الأسئلة قائما مالم يطلع الناس على دينهم بصيغته الإنسانية، وعلى سيرة نبيهم (عليه الصلاة والسلام)، أما الجاري اليوم فإننا نتعامل مع نسخ معدلة ومشوهة من الإسلام القاعديٍ الغليظ.
لا أود الخوض في هذه المسألة السمجة (إسلامنا وإسلامهم)، خاصة أن أغلب الخوض فيها مغرض من هذا الطرف أو ذاك.
لا أتخيل أن عقيدتي كمسلم ستهتز إذا قلت لصديقي المسيحي (كل سنة وإنت طيب بمناسبة ميلاد السيد المسيح).. لا أحس أن كارثة ستحل على الوجود إذا حملت السرور إلى قلب أخ في الإنسانية..ولا أحس بحال من الأحوال أنني غيرت رأيي في ثابت من ثوابت ديني!
أعرف أن الجدل الفقهي التاريخي في هذه المسألة يتداخل فيه تقديرات عدة، كانت مأخوذة في الاعتبار في ظل ظروف تاريخية معقدة، غير أن الوقت غير الوقت والظرف غير الظرف والحياة غير الحياة.
هل من الوفاء أو الإسلام أو الإنسانية أن أضن بتهنئة أستاذتي المسيحية التي درست لي في المرحلة الابتدائية عامين كاملين علمتني فيهما أصول الحساب، بمناسبة عيد ميلاد السيد المسيح أو عيد ميلادها هي شخصيا؟
هل من الفطرة في شيء أن أعبس في وجه جاري المسيحي الذي يقاسمني قدري؟ إذا وقع المبنى الذي نسكنه وقع على كلينا، وإذا زرعنا الحديقة المقابلة له استنشق كلانا هواها النقي؟
الأزمة الكبرى هي المسافة الوهمية التي تم اختراعها بين المسلم وغير المسلم في المعاملات الإنسانية كلها، وفي هذه المسافة تم اختراع عشرات الأسئلة التي تفترض أن المسلم أعلى منزلة أو أن غيره أدنى منزلة، رغم أن سياق المعاملة لا يقضي بتقسيم الصنفين إلى أعلى وأدنى!
هل إذا اشتريت «مسحوق غسيل» من البقال المسيحي المجاور لمنزلي، يكون هذا سياق، لتوصيفي بأني خير عند الله منه أو أنه أدنى عند الله مني؟ ما هو سياق الأفضلية أو الدونية- بافتراض وجودهما- في ظل المعاملات الإنسانية العادية التي نستوي جميعا في أدائها بصورة ميكانيكية؟
إن افتراض أن إسلام المسلم هشُ هينٌ تطيح به تهنئة عابرة أو جملة هنا أو هناك، هو سوء ظن بكل مسلم، وسوء فهم للإسلام ذاته.
لم أكن أحب أن أكتب مقالا أشبه بمواضيع التعبير اللزجة، غير أن الحاصل كله، لا يمكن مناقشته بالمنطق والعقل والحجة.
كل عام وكل مسيحي على هذه الأرض التي نأكل زرعها «سويا» بخير، بمناسبة كل مناسبة تخصه ويسعد لأجلها.
ونزع الله الغل من الصدور..صدور متطرفينا وصدور متطرفيهم.