أمام مؤتمر أخبار اليوم للإبداع، أفاض رئيس الوزراء «محلب» فى الحديث عن دعم الحكومة للثقافة والمثقفين، ورغبتها فى أن ترى مسرحيات جديدة تستمر أعواماً وفيلماً مصرياً يحصل على الأوسكار. وفى غمرة هذا الحديث المفعم بالأُمنيات العظيمة والنوايا الطيبة، خرج عادل إمام بأغرب تعليق ممكن. قال مُوجِهاً كلامَه لرئيس الحُكومة: «إحنا عايزين تبعدوا عننا»!
مازال النجم الكوميدى العجوز قادراً- ببديهته- على الإمساك بلُب المعضلة المصرية المعاصرة. فعلها منذ عقود، عندما صرخ: «أنا غلباااان». وها هو يفعلها مُجدداً. العبارتان، ويفصل بينهما أربعة عقود تقريباً، تعكسان معاً أهم سؤال يواجه مصر فى هذه الآونة.
«أنا غلباااان» كانت صرخة الانسحاق أمام جبروت الدولة. كانت أنيناً صادراً عن مواطن خائف ومُستكين، لا يعرف ماذا تُريد السلطة منه بالضبط. هو طيبُ القلب. يفعل ما هو مطلوب منه إلى حد دفع فواتير تليفون لا وجود له فى بيته. هو- بالفعل- «شاهد ماشافش حاجة»، ولا يريد أن يرى شيئاً. هو لا يبغى سوى الستر.
يُمكن النظر لمسيرة عادل إمام الفنية كلها كتنويعات مختلفة لمقولة «أنا غلبان». أفلامه المُهمة ترتكز على «تيمة» متكررة عن معاناة المواطن البسيط (الغلبان) فى مواجهة جبروت السُلطة ورأس المال. سؤالى هنا: هل سمعتَ يوماً أن الحكومة- فى أى عهد- قلقةٌ أو مستاءة من الأفلام والمسرحيات التى يقدمها عادل إمام؟ العكس هو الصحيح. عادل إمام- كما هو معروفٌ- مقربٌ من السلطة فى مختلف العهود. لا تناقض فى هذا. السُلطة فى مصر لا تُنكر البؤس الشامل والغُلب العميم. بل لا يضيرها أن يُعبر الناس عن غلبهم. على العكس، هذا البؤس هو مبرر وجودها الأول. كيف؟
الوجه الآخر للمواطن الغلبان هو الدولة الراعية. هذه الدولة لا تحاول- وليس باستطاعتها أصلاً- أن تنقل المواطن من حالة «الغُلب» إلى حالة التمكين والرفاهية، ولكن همها الرئيسى ينصرف إلى التخفيف من «غُلبه». تسكين بعض معاناته. هى صادقة فى سعيها هذا، وتعتبره همها الأول ومهمتها الرئيسية.
الغلبان يحتاج الحكومة، حتى وإن كان يشعر بضغطها عليه وبانسحاقه أمامها. الحقيقة أنه لا ملجأ للغلبان- بعد الله- سوى الحكومة. الدولة، من جانبها، تحتاج الغلبان لأن تخفيف ألمه يُصبح المبرر الأخلاقى لوجودها، ولكل ما ترتكبه من أخطاء أو خطايا. هكذا يدخل الاثنان- الغلبان والدولة- فى عقد غير مكتوب: الغلبان يحافظ على غُلبه ويصونه ويتغنى به، والدولة «ترعى» الغُلب وتديره وتضمن ألا يتجاوز الحد فيحدثُ ما لا يُحمد عقباه.
لا خروج من هذه الدائرة الجُهنمية ما دام كل طرف راضياً بدوره فى المعادلة. الانتقال من حال الغُلب إلى حال التمكين والرفاهية يتطلبُ- أولاً- الخروج من ثقافة «الغُلب» لدى الطرفين. هذه الثقافة جوهرها: أنا غلبان، إذن أنا مستحقٌ للرعاية، ولابد أن تقوم الدولة بهذه المهمة. أليست مصر «أمنا» كلنا؟.
الغلب هنا لا يعنى الفقر بالضرورة. «أنا غلبان» ترجمتها الحقيقية: «عايز أتعلم وأشتغل وأحسن دخلى وأسكن، والحكومة عليها تتصرف». هذه الثقافة، الضاربة بجذروها فى وعى المصريين، ليست مقصورة على الضعفاء والمعوزين، وإنما تمتد إلى كل الطبقات وتشكل الخطاب الرئيسى للمثقفين وقادة الرأى. الأخطر من ذلك أنها مازالت تمثل الأساس فى عمل الدولة وخططها المستقبلية.
يقودنا هذا إلى العبارة الثانية لعادل إمام: «إحنا عايزين تبعدوا عننا». أغلب الظن أن ما قصده عادل إمام هو كف الدولة يدها عن التدخل فى الإبداع بتقييد حرية الرأى. على أن ما قاله ينسحب على مختلف أوجه النشاط الإنسانى. «ابعدوا عننا» هى الخطوة الأولى فى نُضج المجتمعات. معناها: أن تترك الدولة المجال للناس ليعملوا وينتجوا، فى الفن كما فى كل مجال آخر.
«ابعدوا عننا» ليست مُريحة ومجانية مثل «أنا غلبان». هى تتطلب ما هو أكثر من الاستجداء والمُطالبة المستمرة. «ابعدوا عننا» لها ثمن. ثمنها هو الخروج من كنف الدولة الراعية إلى فضاء المنافسة، بكل ما يحمله من فرص ومخاطر. «ابعدوا عننا» تلخص معضلة مصر حالياً: كيف تتخلص الدولة من دورها كراعٍ أو تحصره فى حده الأدنى، وتركز- بدلاً من ذلك-على تهيئة البيئة اللازمة للنشاط الاقتصادى وتسهيل إقامة المشروعات الجديدة وتوفير الاتصال بالعالم وتحفيز الإبداع. كيف تكون الدولة سبباً فى إطلاق طاقات المصريين، خاصة النابهين والمُجتهدين من بينهم، بدلاً من الاكتفاء برعاية «غُلبهم» الأبدى الذى لا يفنى.
فى معرض رده على مزحة عادل إمام، قال رئيس الوزراء: «عُمرنا ما نبعد عنكم أبداً، لأننا لازم كلنا نصطف فى هذه المرحلة». لا أعرف إن كان رئيس الوزراء قد التقط المعنى الذى رمى إليه الكوميديان العجوز. إجابته- المُعبرة جداً- لا توحى بذلك!