عبدالناصر والسيسى

اخبار الأحد 21-12-2014 21:49

مصطفى محرم _ يكتب:

أذكر أننى كنت شاباً فى الثلاثين عندما مات عبدالناصر، وقد جمعنى لقاء مع بعض كبار الأدباء والمفكرين ورجال القانون، وكنت أتوقع منهم الحزن والأسف على رحيله ولكنى فوجئت بهم يعبرون عن ارتياحهم لرحيل الزعيم الخالد، وذلك حتى تستطيع مصر - على حد قولهم - أن تتنفس مرة أخرى وتفيق من هذا الكابوس الفظيع وتنهض من جديد. كم ابتهجت نفسى القلقة الحائرة عندما سمعت منهم ذلك الكلام، فقد أدركت أن ما يجيش فى صدرى هو ما كان يجيش فى صدور هؤلاء الكبار من أهل الفكر.

ليس من مصلحة السيسى ولا من مصلحة مصر أن يحاول من يطلقون على أنفسهم «الناصريين»، وبعض من بقوا على قيد الحياة من زبانية عبدالناصر، أن يوجدوا شبهاً بين الرئيس عبدالفتاح السيسى وبين جمال عبدالناصر، فقد دأب هؤلاء الناس منذ ثورة 25 يناير على أن يرفعوا فى كل مظاهرة صورة عبدالناصر وكأنهم لا يريدون حكماً لمصر إلا حكم عبدالناصر ولا نظاماً إلا نظام عبدالناصر، ونحن نراهم بسلوكهم هذا إنما يشبهون أنصار جماعة الإخوان المسلمين عندما يرفعون صور محمد مرسى فى كل مظاهرة، حيث يريدون إرجاعه لحكم مصر، فإن كلاً من هاتين الفئتين تتصور وكأن نظام كل منهما وسياسته وشعاراته الجوفاء هى الطريق الذى سوف يعيد إلى مصر نهضتها ورفعتها اللتين أفقدها إياهما نظام حسنى مبارك، إن هذين الطريقين دفعا بمصرنا العزيزة إلى هزيمة ثقيلة واحتلال أكثر من ثلث أرضها على يد العدو الإسرائيلى فى يونيو 1967، أما الطريق الآخر فقد وصل بمصر إلى حافة الهاوية لولا عناية الله وعناية السيسى، ولذلك فنحن نهيب بكل المصريين ألا ينخدعوا بالشعارات المعسولة التى ينادى بها الناصريون وأشياعهم من الشيوعيين.

إن الهدف من محاولة تشبيه السيسى بعبدالناصر هو إحياء ذكرى عبدالناصر فى أذهان الأجيال الجديدة من ملايين المصريين الذين لم يعيشوا ديكتاتورية وقهر وقمع الزعيم الخالد الذى كان يحكم مصر بنظام بوليسى جائر ذاق من خلاله الشعب الويلات. إن الغرض من إحياء ذكرى هذا الرجل من خلال الدعاية بتدبيج المقالات التى تحاول تبرير أفعاله، وبرامج التليفزيون التى تتغنى بإنجازاته، وكأن المفروض أن رئيس الجمهورية لا يفعل شيئاً لخير شعبه، ويحاولون فى نفس الوقت عقد المقارنة بينه وبين الرئيس السيسى ويخرجون من هذه المقارنة بأن الشبه كبير بينهما، والهدف من كل هذا أن يلتف الناس حول من يسمون أنفسهم «الناصريين» وأربابهم من الشيوعيين ويؤيدوهم فى الانتخابات البرلمانية القادمة.

تدور هذه المؤامرة فى الوقت الذى يتطلع فيه المصريون على يد الرئيس السيسى إلى ازدهار الحريات وتحقيق الديمقراطية الحقيقية التى حرم منها الشعب المصرى ما يقرب من الستين عاماً، ويأمل الشعب المصرى أيضاً على يد السيسى البعد عن المغامرات العسكرية الدون كيشوتية التى كان يخوضها عبدالناصر، مثل حرب اليمن، التى مهما قال الناصريون لتبريرها لا يخفف من خسائرنا فيها، فقد فقدنا فيها زهرة شبابنا من الضباط والجنود، خاصة ضباط وجنود الصاعقة والمظلات، حرب فقدنا فيها الكثير من الأنفس والأموال والعتاد كنا بحاجة إليها. ولم يكن الهدف من وراء تلك الحرب رفع شأن مصر ولكن رفع شأن الزعيم الخالد، وكان من نتائج حرب اليمن بعد ذلك أن خاض جيش مصر حرب يونيو 1967، فلقى الهزيمة الثقيلة التى كشفت عن حقيقة النظام الديكتاتورى البوليسى القمعى. وحاول ذلك النظام من خلال محاكمات هزلية إلقاء التبعة على بعض قادة الجيش، ولكن هذا لم ينطل على المصريين، فقد خرج طلبة الجامعة فى مظاهرات تاريخية، وكنت أنا من بينهم، رغم أننى لم أكن طالباً، وإنما كنت أعمل فى الحقل السينمائى، وأخذنا نهتف مجتمعين الهتاف التاريخى: «لا صدقى ولا الغول عبدالناصر هو المسؤول»، وبالطبع ازداد القمع وزادت الاعتقالات.إن الزعامة لا تتأتى بالخطب والشعارات والقهر وخوض الحروب الدون كيشوتية وخداع الناس بالتمثيليات وتسخير الإعلام. الزعيم يصنعه شعبه كما صنع المصريون عمر مكرم ومصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول ومصطفى النحاس.

نحن نريد زعيماً يعشق مصر قبل أن يعشق نفسه، نحن لا نريد رجلاً يعانى من النرجسية وأوهام البارانويا ويقيم حوله زبانية قست قلوبهم كالحجارة، بل هى أشد قسوة على بنى وطنهم، نريد زعيماً يهفو إليه الناس ويحبونه حباً صادقاً لا زعيماً يجبر زبانيته الناس على التصفيق له.

أذكر عندما كنت طالباً فى جامعة القاهرة عندما كان يعود عبدالناصر من سفر له بالخارج كان ضباط الحرس الجامعى يحاولون إغراءنا بأنهم سيدفعون لكل من يذهب إلى مطار القاهرة الدولى لاستقبال الزعيم الخالد والتصفيق له مبلغ ربع جنيه، والذهاب فى أتوبيسات فاخرة، وتقديم وجبة طعام، ولم يكن يوافق على هذا العرض سوى الطلبة الفقراء والمطحونين، فهل هناك وجه شبه بين السيسى وعبدالناصر فى هذا الأمر؟

سنوات من الخزى والعار وحكايات يندى لها الجبين والزبانية يفترسون بنى وطنهم، حيث يستولون دون وجه حق على الممتلكات وينتهكون الأعراض ويزوّرون التاريخ.

نحن المصريين لا نريد أن ننظر إلى الوراء، وإنما نتطلع إلى عهد جديد، ولا نريد أن يحكمنا أموات لا يؤمنون بالحرية والديمقراطية.