تقسيم إدارى وكساد تجارى

الأنبا إرميا السبت 20-12-2014 21:47

تحدثنا فى المقالة السابقة عن «أنبا صموئيل المعترف» الذى يُعد أحد النماذج الفعلية لما تعرض له قِبط مِصر، الذين تمسكوا بعقيدتهم أمام البيزنطيين الذين استخدموا كل عنف وسَطوة. ولم يتعرض أبناء مِصر لأحوال اقتصادية سيئة واضطهاد فحسب، لٰكنهم عانوا أيضاً تغييرات إدارية فى أيام حكم الروم.

تقسيم مِصر

وإذ نتحدث عن أحوال مِصر آنذاك، نجد أنه جدير بالذكر أن نتطرق إلى تعرض مِصر لتلك التغييرات أو التقسيمات الإدارية.

ففى القرن الخامس الميلادى، ومع تولى الإمبراطور «ليو الأول» (457- 474م) شؤون المملكة، يذكر المؤرخون اختفاء المراكز التى كانت تنقسم إليها المنطقة الريفية لتصبح مقاطعة واحدة يديرها مالياً موظف أُطلق عليه «باجارك» يعينه الإمبراطور ويتبعه مباشرة.

وفى القرن السادس الميلادى، تحديداً فى عام 554م، أصدر الإمبراطور «يوستينيان قيصر الأول» (527- 565م) مرسومه الثالث عشَر الذى قسَّم مِصر فيه أول مرة، إذ قُسمت مِصر إلى أربع وِلايات تحت سيادة حاكم الشرق وسيطرته مباشرة، وقد زود كل حاكم بسلطات عسكرية ومدنية، بحيث لم يعُد لأى من الولاة الأربع سيطرة على الولايات الثلاث الأخرى.

وهكذا انقسمت مِصر إلى أربع ولايات على التساوى نفسه فى المركز، وهى:

الأولى: «آيجيبتوس» أى «مِصر» وتشتمل على غربى الدلتا بما فى ذلك الإسكندرية ويحكمها «دوق»ـ و«دوق» هى درجة «النبيل» الأقل رتبة من الملك أو الملكة، وقد اشتُقت من اللاتينية «Dux» التى تعنى «القائد العسكرى»، وهو فى الوقت نفسه يحمل لقب «أغسطى» أى ممثل الإمبراطور الذى يحمل لقب «أُغسطس».

الثانية: «أغسطامنيكا» وتتضمن شرقى الدلتا حتى «الفَرَما» و«العريش» وعلى رأسها أيضاً «دوق».

والثالثة: «آركاديا» وهى مِصر الوُسطى حتى «البهنسا» ويرأسها «كونت»ـ وهو لقب مشتق من «Comes» ويعنى «الرفقة الإمبراطورية» أو «الحاشية» ويُطلق على النبلاء والأثرياء أصحاب المركز الاجتماعى المرموق- واستُخدم آواخر عصر الإمبراطورية الرومانية.

والرابعة: «طيبة»، وتبدأ من «الأشمونين» حتى أقصى الجنوب ويرأسها «دوق» يحمل لقب «أغسطى».

ثم قُسمت كل ولاية من الأربعة عدا «أركاديا» إلى ولايتين يرأس كل منها «مدير» له سلطات مدنية فقط. وهكذا كانت مِصر مقسمة إدارياً مع نهاية حكم الروم.

شبه الجزيرة العربية

تعود تسمية شبه الجزيرة العربية إلى «العرب»، وبالبحث عن معنى كلمة «عَرَب» وجدنا الآتى:

ذُكر فى «القاموس المحيط» ومعجم «الأغلاط اللغوية المعاصرة» أن: العَرَبة: أرض أو ناحية قرب المدينة، وأقامت قريش بعَرَبة فنُسب العرب إليها.

وذكر أيضاً فى معجم «محيط المحيط»: وربما سُمى العَرَب عَرَبا من سُمرة لونهم، أو لسكنهم فى الجهة الغربية من البلاد، أو لأن البلاد التى سكنوها تُسمى العَرَبات. وقيل: سُمى العرب عرباً نسبة إلى بلدهم «العَرَبات»، وعَرَبة هى «مكة».

أمّا فى «المعجم الوسيط»، فوجدنا أن: العَرَب أو العُرُب: أمة من الناس سامية الأصل، كان منشؤها شبه جزيرة العرب.

وهناك أيضاً رأى يقول إن أصل الكلمة سامى، وفى العبرية تعنى «البداوة».

أيضاً كلمة «عَرَب» هى كلمة منسوبة إلى «يَعرِب بن قحطان»، ومشتقة من اسمه إذ هو أول من تكلم باللسان العربى، وهو يمنى.

وقيل أيضاً إنها مشتقة من الفعل «يُعرِب» وتعنى «يُفصح فى الحديث»، ثم أصبحت تشير إلى «العرب» لفصاحتهم فى اللسان.

ويُذكر أن كلمة «عَرَب» استُخدمت تاريخياً لدى اليهود مرادفـة لكلمة «إسماعيلى».

ومما هو جدير بالذكر أن كلمة «عَرَب» وردت فى سفر أعمال الرسل: «... كِرِيتيون وعَرَب، نسمعهم يتكلمون بألسنتنا بعظائم الله!»، وأيضاً ذكرها بولُس الرسول فى رسائله: «... انطلقتُ إلى العَرَبية، ثم رجَعت أيضاً إلى دمَِشق».

أمّا فى العصور الإغريقية، فقد عُرفت شبه الجزيرة العربية بـ«آرابيا» أو «آرافيا». أمّا الرومان فقد عرفوا ثلاث مناطق من شبه الجزيرة العربية:

الأولى: «آرابيا البتراء» وهى فى أقصى الشمال وعاصمتها «البتراء».

الثانية: «الصحراء العربية» وتشتمل على الصحراء الداخلية فى شبه الجزيرة العربية.

الثالثة: «آرابيا فيليكس» أو «البلاد العربية السعيدة» ويُقصد بها «اليمن».

ونظرًا إلى اختلاف الحياة وتنوعها بين شمال شبه الجزيرة العربية وجنوبها، وبين سكنى البدو وقاطنى المدن بها، فقد راجت فيها التجارة وازدهرت المعاملات التجارية فى أنحائها، وبينها وبين كل من بلاد الشام، ومِصر، ودُول البحر المتوسط.

وتُعد التجارة من أهم الأنشطة التى ربطت بين مِصر وشبه الجزيرة العربية، وكانت محل اهتمام الفراعنة والملوك من خلال بناء الأساطيل البحرية لتنشيط التجارة البحرية، والاهتمام بإنشاء الطرق البرية عبر جزيرة سيناءـ التى كانت سبباً فى إقامة عَلاقات تِجارية وثيقة بين غرب الجزيرة العربية وشمالها الغربى وبين وادى النيل. فكانت الجزيرة العربية تصدّر المنسوجات إلى مِصر ألفى عام من الزمان قبل الميلاد. وكما ذكر علماء الآثار أن لسكان السواحل الشمالية للجزيرة العربية صلات بمِصر القديمة عبر الطرق البرية والبحرية، وقد استدلوا على ذلك بنقش مِصرى من 1360 ق.م، إذ كان السكان فى شمال غرب الجزيرة العربية وسطاء مشاركين فى تجارة البَخور بين مصادر فى جنوب الجزيرة العربية وبين المِصريين.

التجارة البحرية

سيطر العرب على التجارة البحرية بين الهند ومِصر، وقد ظهرت محاولات إغريقية للسيطرة عليها إلا أنها لم تستمر. وقد كان للجزيرة العربية عديد من الموانئ البحرية مثل: «الأبلة»، و«الجرهاء»، و«عمانا»، و«صحار»، و«المخا»، و«قنا»، و«عدن»، و«الشعيبة»، و«أيلة».

التجارة البرِّية

أما عن التجارة البرِّية، فقد كانت عبارة عن قوافل من الجمال التى استُخدمت للتنقل قبل قرابة ألف عام قبل الميلاد. وقد اشتُهرت رِحْلات «قريش» التِّجارية برحلة الصيف إلى «الشام»، ورحلة الشتاء إلى «اليمن».

وبالبحث عن أهم الطرق التجارية فى شبه الجزيرة العربية، وجدنا ما ذكره أ. د. شوقى شعث:

الطريق الأول: طريق «مأرب - البتراء»، وهو الطريق الجنوبى الشمالى، وينطلق من مدينة «مأرب» ماراً بعدة مدن إلى أن يصل إلى «البتراء». ويبدأ هذا الطريق من عدن ماراً بمدينة «قانا» فى بلاد «اليمن» و«حضَرْمَوت»، ثم يصل إلى «مأرِب» الواقعة على بعد ثمانين ميلاً إلى الشرق من «صنعاء»، ثم يتابع الطريق سيره إلى «نجران» فـ«الطائف»، ثم «مكة» و«يثرب» و«خيبر» و«العلا» و«مدائن صالح». بعد ذلك يتفرع منه طريق يتجه إلى «تيماء» «دوحة المندل»، ويتابع الطريق الأساسى حتى يصل «البتراء»، ثم «غزة»، ويتجه منه فرع إلى بلاد «الشام» وآخر إلى «مِصر».

والطريق الثانى: هو طريق «مأرب- جرها»، وينطلق من «مأرب»، ثم «نجران» ماراً بقرية «الفاو» على بعد خمسين كيلومتراً إلى الجنوب من نقطة تقاطع «وادى الدواسر» و«جبال طويق»، ومن هناك يتجه إلى «الأفلاج» و«اليمامة»، ثم «واحة الهفوف»، ثم «جرها» «الجرعاء» على ساحل الخليج العربى.

أمّا الطريق الثالث: فهو طريق «جرها- البتراء»، ويبدأ من «الجرهاء»، ثم «الهفوف»، ثم يتجه إلى الشمال من «اليمامة»، وبعدها ينحرف نحو الشمال الغربى بموازاة «جبل طويق» ويتجه إلى «بريدة»، ومنها إلى «حائل»، ثم «تيماء»، وأخيراً يصل إلى «البتراء».

هناك طرق فرعية أخرى منها: طريق يبدأ من الخليج العربى متجهاً إلى الشمال الغربى بمحاذاة التخوم الشرقية من «نجد»، ويتابع سيره إلى الشمال نحو «العراق» أو «بلاد الشام»، ومنها طريق ينطلق من «حضَرْموت»، ثم «عَمان» متجهاً نحو منطقة «اليمامة»، ثم يصعد إلى «الشام» أو «العراق» حيث يلتقى بالطريق الشرقى أو بالطريق الغربى أو بأحد فروعهما.

ويعود زمن التجارة بين شبه الجزيرة العربية وبين كل من بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام إلى ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، فقد تعددت الاكتشافات التى تُبرز الأنشطة التجارية بين «دلمون» وشمال بلاد الشام فى العصر البرونزى المبكر، وأيضاً تلك التى تتحدث عن ازدهار المراكز التجارية ومنها: «ملوخة»، و«ماغان»، و«دلمون»، و«مارى»، و«إيارموتى» و«إبلا».

وقد كانت التجارة الأساسية هى تجارة البَخور الذى كان يستخدم فى المراسم الدينية والعطور. كذلك كانت شبه الجزيرة العربية مركزاً هاماً لتوزيع البضائع الثمينة القادمة من «الهند» و«أفريقيا» مثل التوابل والعاج. ويذكر المؤرخ اليونانى «هيرودت» فى كتاباته عن جنوب الجزيرة العربية فيقول: «القُطر الوحيد الذى يُنتج البَخور والمُر والكاسيا والقرفة واللُّبان».

ويتحدث المؤرخون عن دولة «الأنباط» فى شمال شبه الجزيرة العربية فى المرحلة ما بين القرن الأول قبل الميلاد والقرن الثانى الميلادى، التى كان لها دور بارز فى التجارة البرية بين شمال شبه الجزيرة العربية وجنوبها. وكانت القوافل تمر من «الحجاز» إلى «منطقة الحجر»، ومنها إلى «البتراء»، ثم غرباً إلى «غزة» و«العريش»، وشمالاً إلى «دمَِشق»، ومنها إلى ساحل البحر المتوسط.

أما بعد الاحتلال الرومانى، مع بدايات القرن الثانى الميلادى، وتحوُل «البتراء» إلى مقاطعة رومانية، بدأ الضعف يدِبّ فى النشاط التِّجارى، فقد تحولت الطرق التِّجارية إلى طريق البحر الأحمر الذى يمر بمِصر، وطريق الخليج العربى حيث يمر بـ«تَدمُر»، ثم إلى الإمبراطورية الرومانية.

أما التجار اليونانيون، فقد نشطوا التجارة بين «خليج عدن» وموانئ البحر المتوسط مثل «صور» و«أنطاكيا»، وأنشأوا مستعمرات فى إثيوبيا على البحر الأحمر.

وقد نالت مدينة «غزة» شهرة تِجارية بارزة آنذاك، لموقعها المتميز على شاطئ البحر المتوسط، فهى آخره قبل دخول الطريق الصحراوى إلى مِصر، كما هى أول المدن التى تصل إليها القوافل القادمة من مِصر، وفى الوقت نفسه هى نهاية طريق القوافل القادم من «البتراء» عبر «بئر السبع». وقد أعيد بناء «غزة» فى العهد الرومانى بعد عام 57 ق.م لتصبح واحدة من أكثر الموانئ البحرية ثراءً فى الإمبراطورية الرومانية.

ومع أوائل القرن الرابع الميلادى، تدهورت تجارة القوافل فى جنوب الجزيرة العربية بسبب كساد أسواق البَخور، وقد أعاد المؤرخون أسباب ذلك الكساد إلى:

■ انتشار المَسيحية فى الإمبراطورية الرومانية.

■ قلة الأمن فى الطرق التِّجارية بسبب ضعف الإمبراطورية الرومانية بعد الغزو الفارسى، كما ذكرنا سابقاً.

■ الحروب الداخلية فى شبه الجزيرة العربية.

إلا أن طرق التِّجارة البرية وحركة القوافل قد استمرت وإن كانت على نحو متقطع. و... وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى...!

*الأسقف العام رئيس المركز

الثقافى القبطى الأرثوذكسى