بديهى أن الخطاب الدينى هو فى جوهره خطاب دنيوى يحاول صاحبه أن يعطيه مكانة لدى سامعه ليكون الأقرب إلى سمعه وبصره وقلبه وعقله، ومن ثم الأقوى فى توجيه تفكيره وسلوكه، وبالتالى الأوسع فرصة فى تشكيل حياة المجتمع ككل. وبديهى أن ذلك الخطاب أخذ صفة أنه «دينى» من خلال صدوره عن رجال دين فى حال الجماعة المسيحية، وعن عالم أو فقيه أو موظف يعمل إماما وواعظا فى وزارة الأوقاف فى حال الجماعة المسلمة، ثم وفى الحالتين إنه يلقى فى دار عبادة، أو يبث برامج إعلامية مسموعة أو مرئية مخصصة لمخاطبة الناس فى شؤون عقائدهم وشرائعهم الدينية.. ناهيك عن أنه خطاب لا بد أن يحتوى على نصوص كتب مقدسة وأحاديث نبوية وربما سيرًا– جمع سيرة– لأنبياء ورسل وصالحين!
ثم إننى لو كان الأمر بيدى لنزعت عنه صفة «دينى»، لأننى أعتقد أن ما يصدق عليه هذا الوصف هو فقط الكتب المقدسة التى خاطب بها الله سبحانه وتعالى عباده عبر رسله الذين حملوا الرسالة وأنزلت عليهم تلك النصوص، وما عدا ذلك فهو خطاب فقط ويمكن أن يكون خطابا إرشاديا أو وعظيا أو منبريا.. تمامًا مثلما كانت تسمى «الخطب المنبرية»!.. وعلى أى حال وإلى أن نجد من ينزع عنه رسميًا وفعليًا تلك الصفة، وأن يصل الناس فى عمومهم إلى قناعة بأن ما يسمعونه هو من نتاج عقل الخطيب أو المتحدث، وأنه يصيب ويخطئ، وقد يصل خطؤه إلى خطيئة فى حق الدين الذى يريد أن يهدى الناس إلى طريقه ويدعوهم إلى مبادئه وقواعده وأهدافه، وإلى أن يحدث ذلك فإننى أظن أن ما هو مطلوب من تطوير وتحديث لذلك الخطاب أمر يتجاوز من اصطلح على تسميتهم بالدعاة والوعاظ فى الكنائس والمساجد والقنوات الفضائية إلى جهات أخرى أرى أن دورها شديد الأهمية فى هذا المضمار.
إن لنا أن نتخيل دعوة واسعة لندوات ومواسم ثقافية فى النوادى الرياضية والاجتماعية وفى جمعيات مثل الليونز والروتارى وما شاكلهما، وفى النقابات والجمعيات المهتمة بالعمل المدنى، وفى مراكز الشباب والساحات الشعبية – إن كانت لا تزال موجودة– يكون موعدها أيام الجمع والآحاد بعد الصلاة فى الكنائس والمساجد، وتدور كل مرة حول الخلفيات التاريخية والمحتويات الحضارية والثقافية والاجتماعية والأدبية والعلمية المتصلة بموضوع خطبة الجمعة أو العظة الكنيسية.. وإذا لم تكن الخطبة أو العظة تحمل مثل هذه الإضافات، فإن تلك الندوات والمواسم الثقافية يمكن أن تكون قائمة بذاتها ولكن برامجها وضعت مسبقا بالتنسيق مع الكنائس المصرية ومع الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف!
وحتى لا يبدو الكلام وكأنه شطحات واحد «مشعوف» على وطنه فإننى سبق أن كتبت عن تجربة عشتها مع آخرين كنا نلتقى فيها كمجموعة محاضرين عشرات من الشباب المسيحى المصرى، وأثمرت ثمارا زاهية وما زال بعض من حضروها من أولئك الشباب والشابات فاعلين فى الحياة العلمية والعامة بروح نقية وعقل صاف خاليين من أى تعصب أو تطرف، ولذلك فإننى أذهب إلى أن برنامجا يعمم فى الندوات والمواسم الثقافية التى أقترحها للجهات التى سبق أن أشرت إليها يكون مفيدا ومساندا ومعمقا للخطاب «الدينى» ومحققا لما نبتغيه من تجديد.
تخيلوا أن شبابنا من الجنسين، ومن مستوى المرحلة الثانوية إلى الجامعة وحديثى التخرج، يجدون من يحدثهم عن علاقة جغرافية مصر بتاريخها وبدورها فى محيطها العربى والأفريقى، وكيف لعبت حضارتها وثقافتها دورا فى مجال عبادة الله الواحد منذ أزمان سحيقة!. وتخيلوا حديثا لهم عن الجذور المشتركة بين حضارات شرق المتوسط والتداخل والتواصل بين شعوبها بما ينفى أى تمييز أو عنصرية أو ضيق أفق!
وتخيلوا حديثا للشباب عن الذى قدمه وطنهم مصر للبشرية منذ اهتدى الأجداد إلى وجود عالم آخر وعدل إلهى وحساب أخروى، وإلى عبقريتهم فى الطب والهندسة والفلك والأدب، ثم تتبع هذا الخيط عبر مراحل التاريخ إلى العصر الحديث!.. وتخيلوا تأصيلا يقدم لتلك الأجيال عن أصول وبدايات المشاكل التى تواجه الوطن، أى التحديات على مستوى الطبيعة ومستويات أخرى تتصل بالتكوين الثقافى والاجتماعى، وكيف كانت الاستجابة لهذه التحديات وتلك المشاكل كهجوم الصحراء على الوادى وهجوم البحر على الدلتا وكتهدد منابع النيل، ثم ما يتصل بالتفتيت الدينى والطائفى والمذهبى وكيف تتم تغذيته وهلم جرا ليتم رسم خريطة التحديات ورسم خريطة الاستجابة لها.
الأفكار كثيرة ومتنوعة والمهم هو ضربة البداية، والتأكد من أن تطوير الخطاب الدعوى الوعظى فى الكنائس والمساجد والقنوات الفضائية هو مهمة واسعة يجب أن يضاف إليها جهد علماء ومفكرين وباحثين إلى جهود الأكليروس والأئمة والوعاظ.