وزارة الري تجمّع تكاليف تطهير الترع من صغار الفلاحين (تحقيق)

كتب: ريهام العراقي الإثنين 08-12-2014 23:56

قبل أيام من انتهاء شهر يناير عام 2007 أعلن وزير الرى الأسبق، محمود أبوزيد، عن اتجاه وزارته لإنهاء «السدة الشتوية» التى تقوم خلالها الوزارة بخفض مناسيب المياه فى الترع خلال فصل الشتاء، لتطهيرها من المخلفات والنباتات المضرة.

قال الوزير الأسبق إن الوزارة ستقوم بالتنسيق مع وزارة الزراعة لتنظيم الاحتياجات المائية بحسب المواسم الزراعية واحتياجات المزروعات، بحيث لا تضطر لتخفيض مناسيب المياه دفعة واحدة خلال فترة السدة الشتوية.

مشكلة تطهير الترع فى الشرقية

كان لدى الوزارة قبل 4 سنوات كاملة من ثورة الخامس والعشرين من يناير خطة متكاملة، ينتظر منها أن تضمن للمزارعين المياه النظيفة الكافية لرى محاصيلهم الشتوية وعلى رأسها القمح، ولكن بعد أربع سنوات من هذه الخطة الطموح للقضاء على السدة الشتوية، فقدت وزارة الرى الأمل، وربما ملف الخطة لتناشد فى بيان لها- فى مطلع ديسمبر الجارى- رجال الأعمال للتبرع تحت شعار «تَبَنّى ترعة»، لمساندة الوزارة فى تطهير الترع والمصارف، على أن يتحمل المتبرع تكاليف تطهيرها خلال فترة «السدة الشتوية»، وهى الفترة التى تتجه فيها الوزارة إلى خفض الاحتياجات المائية لتطهير الترع للحد من الاختناقات المائية وسهولة وصول المياه إلى نهاية الخط. وحتى لحظة نشر هذا التحقيق لم يعلن سوى رجلى أعمال فقط عن استعدادهما للمساهمة فى مبادرة الوزارة، بينما ينتظر الفلاحون موسمًا جافًا، ستشهد البلاد آثاره عند الإعلان عن إنتاج القمح خلال الأشهر القليلة المقبلة، أو يتبقى لديهم خيار آخر هو ما لجأ إليه محمد أنور المزارع بقرية «القراقرة» بمحافظة الشرقية.

لم يكن هناك أمام أنور سوى أحد خيارين إما أن يقبل برى أرضه بمياه الصرف الصحى، أو أن يستسلم للسدة الشتوية ويشاهد محصوله يموت أمام عينيه، مما يهدد بتصاعد مديونيته للجمعية الزراعية؛ وهى مجازفة كبيرة، خاصة مع رفض الدولة إسقاط الديون عن الفلاحين أو إعادة جدولتها.

داخل عشة من البوص تنبعث منها أدخنة كثيفة، جلس محمد أنور، الرجل الستينى، أمام أكوام من الفحم لتدفئة جسده النحيل من برودة الطقس، استدفأ للحظات قليلة قبل أن يتجه نحو إحدى مواسير الصرف الصحى، ليكشف غطاءها، ويصلها بماكينة رفع المياه عبر ماسورة طويلة لرى محصوله الزراعى.

وعلى بعد عدة أمتار يقع حقل «رضوان» الذى اعتاد نقص مياه الرى فى زراعة محصوله، لكنه يعلم أن الوضع سيزداد صعوبة مع دخول فترة «السدة الشتوية» وبالتزامن مع بدء زراعة القمح. ونفى "رضوان" قيام وزارة الرى بتطهير الترع المخصصة للرى الزراعى، حتى تضمن وصول المياه للأراضى. وقال: «لم نر حفارا واحدا لتطهير الترعة، ومش عارفين هنروى القمح منين، زمان كانت الجمعيات الزراعية هى المسؤولة عن تطهير الترع، وطالبنا المسؤولين بوزارة الرى بتطهير الترع إلا أنه كان ردهم أن الآلات المملوكة للوزارة تقوم بتطهير المساقى الرئيسية فقط، ولا علاقة لها بالمساقى الفرعية».

فى منتصف شهر ديسمبر من كل عام وعلى مدار شهر كامل، من المفترض أن تقوم وزارة البيئة بتطهير الترع والمصارف البالغ طولها 35 ألف كيلومتر مربع من الملوثات. يصل عدد ترع الرى هذه إلى 8000 ترعة، وذلك خلال تلك الفترة التى يطلق عليها «السدة الشتوية»، حيث ينخفض منسوب النيل.

اعتمدت حسابات مصالح ووزارات الرى التى تعاقبت طوال تاريخ تنظيم الدولة لشؤون الزراعة وتنظيم النيل، على الحالة المناخية التى كانت تزداد فيها غزارة الأمطار شتاء، فكان يمكن للفلاحين أن يعتمدوا عليها فى الرى فى الوقت الذى تغلق فيه الدولة السدود النيلية لاستغلال تلك الفترة فى تطهير الترع والمصارف. فيتم تخفيض منسوب المياه من 250 مليون متر مكعب إلى 80 مليوناً فقط يومياً، أى أن كمية المياه المنصرفة من أفرع النيل إلى الترع تقل بمقدار الثلثين تقريبًا.

مشكلة تطهير الترع فى الشرقية

تغيرت الظروف المناخية دون أن تعيد الدولة دراسة عادتها القديمة فى خفض مناسيب المياه، مما صار يهدد المحاصيل بعدم الحصول على المياه الكافية للرى، فجاء الخيار الثانى برى المحاصيل بمياه الصرف؛ رغم وجود خطة قديمة بأدراج الوزارة تقضى بتقسيم الأحواض الزراعية فى مصر إلى خمس مناطق يتم توزيع عمليات التطهير وخفض المنسوب عليها بشكل يضمن عدم توقف الزراعة مرة واحدة بشكل يلجئ فلاحيها لأحد الخيارين الصعبين.

«نعمل بصورة دورية وليست موسمية».. بهذه الكلمات أكد المهندس فتحى جويلى، رئيس مصلحة الرى لـ«المصرى اليوم»، أن صيانة الترع تتم بصورة مستمرة على مدار العام، دون انتظار للسدة الشتوية، موضحا أن الهدف من «السدة الشتوية» هو ترشيد المياه، بالتزامن مع انخفاض احتياج المحاصيل الزراعية للمياه خلال شهر يناير؛ لهذا تستغل الوزارة السدة بدءا من منتصف يناير لإجراء التطهير الكامل لترع الرى.

وحول معاناة المزارعين فى وصول مياه الرى إلى أراضيهم فى موسم «السدة الشتوية» نفى "جويلى" علاقة السدة الشتوية بوصول المياه من عدمه إلى الأراضى، مؤكدًا أن التعديات على مناطق بداية الترع هى السبب الرئيسى وراء قلة المياه.

على امتداد نهاية الترعة المجاورة لأرضه، استأجر سليمان مصطفى فدان أرض مقابل 6000 جنيه فى العام الواحد، وفى محاولة منه لتوفير أجرة العمالة اليومية، اضطر إلى الاستعانة بزوجته المصابة بالسكر وأبنائه الثلاثة فى زراعة محصوله. أيام طويلة اضطر فيها إلى المبيت بجوار محصوله، إلا أن ذلك لم يكن كافيا لتحقيق حلم سليمان فى زراعة القمح بسبب عدم وصول المياه إليه. اشتكى سليمان من الإهمال فى تنظيف الترع وقال: «جميع الأراضى الواقعة على نهاية الترع لا يصلها الماء بسبب عدم تطهير الترع وتراكم ورد النيل الذى يهدر كميات كبيرة من المياه، ولجأت إلى الرى الارتوازى الذى يؤدى إلى رفع نسبة الرصاص والأملاح فى التربة».

وأكد سليمان أن الفلاح البسيط هو وحده من يعانى نقص فى المياه، فى الوقت الذى لا تنقطع المياه عن أراضى المسؤولين فى البلد، على حد قوله.

مشكلة تطهير الترع فى الشرقية

وناشد سليمان مسؤولى وزارة الرى حل أزمة مياه الرى قبل البدء فى زراعة محصول القمح الذى يحتاج إلى ريّه ثلاث مرات، «فى الوقت الذى لا نستطيع ريه حتى مرة واحدة» وأضاف: «نقص المياه عند الأراضى التى تقع عند نهاية الترعة اضطرنى العام الماضى إلى حصد جزء كبير من محصول القمح قبل أوانه، وبيعه كعلف للماشية، وانخفضت إنتاجية الأرض بشكل كبير، وأخشى من تكرار نفس المشكلة العام الحالى».

على طريق بنى سويف الزراعى، تعلو أصوات ماكينات رفع المياه، وهى الوسيلة الوحيدة أمام الفلاحين لرفع المياه لرى أراضيهم. طه عبدالفتاح فلاح من قرية «أبشنا»، اجتمع مع عدد من المزارعين واتفق معهم على رفع المخلفات من ترعة «بليفيا» قبل بدء موسم القمح، وقال:«كل واحد فى البلد لازم يشترى ماكينة رفع المياه بـ1200 جنيه، ولازم نحافظ عليها زى عيالنا، فنحرص على تغيير الزيت لها بشكل دورى ولا نتعدى سرعتها، واتفقت مع الفلاحين جيرانى فى الأرض بالاشتراك لجمع 1000 جنيه من كل واحد علشان ننضف الترعة من القاذورات قبل موسم القمح».

سنوات عمره الخمس وسبعون لم تشفع له عند مالك الأرض، فمازال يشتغل أجيرا باليومية للإنفاق على زوجته المصابة بالسكر، وقوفه على قدميه فى الحقل لساعات تتعدى السبع يوميا جعله يغفل عن صوت الكراكة التى أرسلتها وزارة الرى لتطهير الترعة المجاورة لأرضه، فنظفت أرضه من أشجار الموز التى اجتهد فى زراعتها عوضًا عن تطهير الترعة. هرع الرجل السبعينى يصرخ بأعلى صوته لتتوقف الكراكة عن دهس المحصول، إلا أن صوته لم يصل وسط صخبها العالى، بنبرة حزينة تحدث عم حسين وقال: «حسبى الله ونعم الوكيل كنت نايم الأسبوع اللى فات جنب الزرع وصحيت على صوت الكراكة جت تنضف الترعة اللى جنبنا، وفوجئت بأنها دخلت على شجر الموز وخلصت على الزرع، وقعدت أصرخ علشان يبطلوها محدش سمعنى ومش عارف صاحب الأرض هيتصرف معايا إزاى».

أشار أحمد صالح، مهندس زراعى، أحد ملاك الأراضى الزراعية، إلى أن مشكلة ورد النيل وعدم تطهير المجارى المائية الخاصة برى الأراضى الزراعية من أخطر المشاكل التى تواجه المزارعين، لأن الأول يلتهم كميات كبيرة من مياه الرى، ويمنع وصولها إلى جميع الأراضى، خاصة تلك الواقعة فى نهايات الترع والمصارف، ويجبر المزارعين وأصحاب الأراضى على البحث عن مصادر بديلة لمياه الرى: إما استخدام مياه الصرف الزراعى أو الصناعى؛ وهو ما يتسبب فى تلف المحاصيل وإصابة من يتناولونها بقائمة من الأمراض لا تنتهى عند السرطان والتسمم، وذلك كله على الرغم من قيام الوزارة بتحصيل مبالغ مالية كبيرة من المزارعين سنويا من أجل تطهير الترع والمصارف.

على بعد كيلومتر من مركز «الفشن» بمحافظة بنى سويف، ترى ترعة «بليفيا» التى غطتها الحشائش والحيوانات النافقة، وأدى نقص المياه فيها وانسداد مواسيرها بالقاذورات إلى اضطرار الأهالى إلى دق الطلمبات لرفع المياه الملوثة لرى أراضيهم، بينما لجأ بعض المزارعين إلى رى أراضيهم من المصرف الموازى للقرية.

تحدث محمود مسعد، مزارع بقرية باها القريبة من الترعة، عن أزمة مياه الرى وقال: «نضطر إلى زرع أراضينا بالمياه الملوثة، فمديرية الرى لم تقم بتركيب مصاف شبكية تسمح بمرور الماء وتمنع المخلفات الأخرى، مما حرم مئات الأفدنة من مياه الرى، واضطر الفلاحون للاعتماد على مشاريع الصرف المجاورة لأراضيهم».

مشكلة تطهير الترع فى الشرقية

دق ماكينات ارتوازية لرفع المياه الجوفية كان هو الحل الوحيد أمام «أحمد محجوب»، أحد مزارعى قرية «محجوبة» ببنى سويف، لإنقاذ محصوله من الجفاف، بعد جفاف قرية «باها» وتحولها إلى حفرة كبيرة تمتلئ بالقوارض والحشرات، يقول: «الحكومة تركت الفلاح يموت بحسرته على زرعه». وأضاف: «اشتكينا أكثر من مرة إلى مسؤولى الرى دون مجيب، فنحن نتصارع فى القرية على توصيل المياه إلى أراضينا، ونضطر إلى استخدام المياه المتخلفة عن رى الزراعات القادمة من القرى القريبة، وتكون محملة بالأملاح والكيماويات، وهو ما تسبب فى بوار الأرض لارتفاع نسبة الملوحة فى التربة».

لم يقتصر إهمال تطهير الترع والمصارف على معاناة المزارعين فى رى أراضيهم، بل نال الأهالى المجاورون لها جزءا كبيرا من المشكلة. فأمام المصرف الذى يتوسط قرية «القراقرة» بالشرقية، جلست «أم باسم» تغطى أنفها بالحجاب الملتف حول رأسها محاولة اتقاء شر الرائحة الخبيثة المنبعثة من مياه الصرف المستخدمة فى الرى. بينما أغلقت نوافذ بيتها الصغير خشية دخول الفئران والحشرات الزاحفة من المصرف إليها. وبدا على وجه رضيعها الصغير علامات قرص الناموس. وبنبرة حزينة اشتكت السيدة الثلاثينية وقالت: «أعانى الأمرّين مع أطفالى بسبب المصرف، فأنا لا أستطيع فتح نوافذ منزلى خوفاً من دخول الناموس أو الثعابين والفئران من المصرف، فنحن لا نرى الكراكات التى تدعى الحكومة إحضارها لتنظيف المصرف، وأتمنى الانتقال إلى عشة بعيدا عن هذا المكان الذى يمتلئ بالأوبئة والأمراض».

من جانبه، أوضح الدكتور خالد وصيف، المتحدث باسم وزارة الموارد المائية والرى، أن مناشدة وزارة الرى لرجال الأعمال بـ"تبى نترعة" هى: «دعوة لمشاركة المجتمع فى بناء مصر جديدة»، على أن يدفع المتبرع نفقات المقاول الذى يقوم بأعمال الصيانة وتقوم الوزارة بالإشراف الفنى.

وحول استجابة رجال الأعمال لهذه المبادرة، أشار "وصيف" إلى أن الدعوة استجاب لها اثنان من رجال الأعمال فقط، هما المهندس نجيب ساويرس الذى تبنى تطهير ترعة النوبارية، ورجل الأعمال أحمد بهجت الذى تبنى تطهير ترعة أسيوط.

وذكر "وصيف" أن النفقات السنوية لتطهير الترع تصل إلى 150 مليون جنيه، وأن مسؤولية الوزارة تتوقف عند ضخ المياه للترع، ومباشرة أعمال الصيانة السنوية، وإزالة الحشائش والنباتات التى تطفو على سطح الترع.

ونوه «وصيف» بضرورة الالتزام بالقانون الذى يقضى بأن إزالة المخلفات السكنية مسؤولية واجبة على الجهاز المحلى، ووزارة الرى غير مسؤولة عن المخلفات التى يتم إلقاؤها فى الترع والمصارف.

مشكلة تطهير الترع فى الشرقية

ووضع الدكتور أحمد فوزى، خبير المياه الدولية، حلاً لأزمة نقص المياه فى موسم السدة الشتوية، من خلال ضرورة خلق التنسيق بين وزارتى الرى والزراعة، لترشيد المياه حسب احتياجات المحصول المزروع فى الأراضى، والتزام الفلاحين باتباع الدورة الزراعية، وحفر آبار فى نهاية الترع.

وذكر "فوزى" أن الرى من الآبار أفضل من الرى بالصرف الزراعى والصناعى، محذراً من خطورة الرى بمياه الصرف الصناعى والصحى على التربة والمحاصيل الزراعية.

وشدد "فوزى" على ضرورة تغليظ العقوبة على المعتدين على نهر النيل لحمايته من الملوثات.