انهارت عمارة فى حى شعبى فى القاهرة، وأخرجوا من تحت الأنقاض ثمانية عشر قتيلًا. اتضح أن مجلس الحى قد أصدر منذ سنوات قراراً بإزالة طابقين منها، غير أن صاحب البيت كغيره من أصحاب البنايات المخالفة لم ينفذ القرار. من الناحية الهندسية تعتبر العمارة آيلة للسقوط، لأن مواد البناء التى استخدمت فيها ليست مطابقة للمواصفات المعتمدة. كانت العمارة أشبه بجسم سكنته كل الأمراض، وظل واقفا على قدميه كشجرة عجوز غير مثمرة. المشكلة هى فى تفسير كلمة «آيلة».. لابد أن السكان كانوا يقولون لبعضهم البعض: «وهل تصدق كلام الحكومة؟.. ربك هو الستار».
أحد الترزية استأجر شقة فى الدور الثالث، بالطبع لابد له من ديكور جذاب لزبائنه، قرر أن يعدل من وضع بعض الأعمدة فى الشقة.. هذا هو موضوعى اليوم، حرية بعض الناس فى ممارسة الجريمة. كان الرجل يمارس حريته ويمارس أيضا حق الملكية على المكان، غير أنه بالقطع لم يفكر فى أن هناك آخرين يسكنون العمارة، وأن ما يحدثه من تعديلات فى شقته من شأنه أن يسبب لهم أخطارا جسيمة، ربما تكلفهم حياتهم. إنها الحرية المقترنة بنفى الآخر. إنها العدوان الغريزى الذى لا يوقفه شىء. صاحب البيت أيضا عندما أضاف طابقين بغير ترخيص كان يمارس ما يعتقد أنه حريته. هو أيضا عاجز عن رؤية الآخرين.
فى غياب الاحترام للقوانين والأعراف وما أثبته العلم من قوانين علمية، لا توجد حرية ولا يحزنون. فردية الإنسان وحقوقه لها احترامها وقدسيتها، غير أنه على كل فرد أن يكون على وعى دائم بأن الآخرين موجودون طول الوقت، وأن لهم جميعا نفس حقوقه. وبذلك تكون الحرية كما أتصورها هى: إحساس قوى بوجود الآخرين، والقدرة على الإنجاز ليس بالتحايل على القوانين والإفلات منها، بل بالعمل من خلالها على الوصول إلى الإنجاز فى كل مجال، ابتداء من كتابة قصيدة شعرية أو رسم لوحة فنية أو بناء مصنع.
كل حركة فى هذا الكون تتم طبقا لقوانين طبيعية، لا يوجد ما يسمى «الحرية المطلقة». حتى الصاروخ المنطلق فى السماء مقيد بالوصول لهدف ينفجر عنده. عندما أقول: «أنا حر»، فمعنى ذلك أننى أعمل وأنتج سلعة لها أهميتها. عندما أطلب الحرية فأنا فى حقيقة الأمر أطلب أن أتمكن من الإنجاز، وبذلك تكون حريتى مرتبطة طوال الوقت بوجود الآخرين.
صحفى شاب سألنى: «ما هى الديمقراطية.. وما هى الحرية؟».
فأجبته: الديمقراطية هى القدرة على إنتاج سلعة منافسة، والحرية هى القدرة على إنتاج سلعة منافسة. حتى لو سألتنى عن الحب فسأرد عليك: الحب هو ذلك الإحساس الجميل الذى يمنحك القوة والثقة بالنفس لدفعك للعمل والإنجاز. مصدر الكبرياء عند البشر هو قدرتهم على الإنجاز والإتقان، الأكثر إتقانا هو الأكثر فضلا، والأكثر إنجازا هو الأكثر حرية.
(نقلاً عن الشرق الأوسط)