أحزان الرسول

أيمن الجندي الأربعاء 19-11-2014 21:36

جانب من السيرة النبوية لطالما تأملته. اعتدنا أن ننظر إلى النبى فى مقام الإذعان والتهيب. لكننا ننسى أن الرسول فى النهاية بشر. حزن كحزن البشر وقاسى مقاساة الناس. جاع أشرف خلق الله حتى لم يعد أمامه إلا ضغط الحجارة على بطنه لتسكين الجوع. طالبته نساؤه بزيادة النفقة فلم يملك لهن سوى خيار التسريح!

والفقر نفسه لا يقارن بمرارة الفقد التى عاناها منذ عرف اليتم فى بطن أمه، وأبوه عبدالله يودع الحياة. ثم لوعة فقد الأم التى استمرت حتى ختام العمر، لم يكن الصحابة يتصورون أن نبيهم يحمل كل هذا الحزن حينما سمعوه ينشج على قبر أمه وقد قارب الستين. ترى أى لوعة عرفها اليتيم الهاشمى حينما أودعوا أمه- أمام عينيه- التراب!

وكأن الفقد قدر عليه، يموت جده الذى رباه والغلام اليتيم واسع العينين لا يعرف لماذا يحدث له هذا دون باقى الأطفال! لم يشعر إلا وكف عمه أبى طالب تسحبه إلى داره ليكفله ويؤويه. جميل سوف يرده فيما بعد لابنه على، وهل يكون من الكريم إلا الكرم؟

ويكبر محمد وينزل على قلبه الأمر الجليل. مطلوب منه أن يبلغ البشر رسالة السماء. أمانة تنوء بها الجبال. ينظر إلى السماء فيجدها واسعة، وإلى الجبال فيراها هائلة، وإلى الأرض فيراها شاسعة، مطلوب منه أن يبلغ دعوة التوحيد إلى الشعوب البعيدة والقبائل المتناثرة والبدو الرحل. مطلوب منه أن يدعوهم ويجادلهم ويصبر عليهم ويتحمل أذاهم ويعاود الكرة تلو الكرة بشفقة أب يرى ابنه الصغير منحدراً نحو الهاوية، لا يستمع إلى صيحات التحذير.

وسط التعب والمعاناة يفقد محمد أبناءه الذكور. وصناديد قريش يشمتون به: محمد أبتر. ثم ينزل وحى السماء يواسيه ويراضيه، ذِكْرُ هؤلاء يبور، أما ذِكْرُك يا محمد فمقرون بعبارة التوحيد، مرفوع عند رفع الأذان، حاضر فى قلوب المؤمنين.

وفى عام الحزن حين ماتت زوجته، لم يكن يوماً بحاجة إلى خديجة مثل حاجته إليها ذلك اليوم، ها هى الحبيبة تذهب، الزوجة، الصديقة، الحبيبة، القلب الرؤوم. صدَّقته حين كذبه الناس، وأعطته حين حرمه الناس، ولم يعرف طعم الأبوة إلا وهى الأم. أىّ حزن ألم به وهو يرمق جثمانها الساكن الصامت، أىّ ذكريات وهو الذى لم يعرف امرأة غيرها، أىّ حزن استشعره لحظتها وهو الذى لم ينس ذكراها بعد ذلك بسنين.

تصور حزنه وعمه أبوطالب يموت، ذكريات عمر بأكمله والعم الحبيب يحوطه بالرعاية والحنان.

وحتى حينما ابتسمت الدنيا وتحقق النصر المؤزر فى غزوة بدر. فى لحظة النصر والرضا، إذا به يسمع الخبر: موت ابنته رقية.

أىّ شجن أحس به رسول الله والقوم يساوون التراب فوق قبر ابنته، وأختها فاطمة على القبر تبكى وتنتحب، فجعل الرسول يمسح عينها بطرف ثوبه ويواسيها.

وفى الأعوام القادمة يتكرر الفقد ويتكرر الصبر، تموت ابنته الثانية أم كلثوم، بعدها تموت ابنته زينب، يموت عمه المحبوب حمزة بعد تمثيل وحشى ينكره الدين وتأباه أعراف العرب.

ويصبر الرسول حتى فى أعظم موقف يتعرض له أب، موت ابنه إبراهيم الذى رزق به بعد أن تجاوز الستين.

محمد بن عبدالله، حزين فوق حزن البشر، يحزن المرء بمقدار الرحمة فى قلبه، وهل هناك رحمة أوسع من قلب نبى قال عنه الله: «بالمؤمنين رؤوف رحيم».

aymanguindy@yahoo.com