الحكيم «سليمان فياض» يتكلم..

علاء الديب السبت 15-11-2014 21:25

مرة أخرى تثبت «مكتبة الأسرة» أنها واحدة من أهم إصدارات وزارة الثقافة الكثيرة: بأن تصدر الآن هذه الطبعة الجديدة لكتاب: الحكيم سليمان فياض «الوجه الآخر للخلافة الإسلامية»، الكاتب والكتاب علامات مهمة، من الواجب استحضارها وبحث معناها الآن، فى هذه اللحظات الفارقة والمرتبكة.

الحكيم - اسم - وصفة كنا ننادى بها الصديق الأستاذ سليمان فياض، عندما يخرج عن صمته لكى يقول حاداً وحاسماً، رأيه فى مسألة من مسائل الأدب أو السياسة.. هو دائماً يجيد الصمت والاستماع، كما يجيد كشف الحقائق والوصول إلى لب الموضوع، ومع الاقتراب من الحكيم تكتشف: أنه يكتب ما يعيش ويعيش ما يكتب.

طوال معرفتى بالصديق سليمان - التى ترجع إلى منتصف خمسينيات القرن الماضى لم أشعر أنه يستند إلى أيديولوجيا جامدة، أو جماعة أو حزب أو تنظيم، صنع الحكيم نفسه، وشق بجهاد فكرى وفنى لنفسه طريقاً خاصاً، أوصله إلى مكانة متميزة، فى الإبداع الأدبى وفى أبحاث اللغة، وفى إعادة قراءة التراث والتاريخ الإسلامى بعيون حرة ناقدة، متخلصة من ظلام القرون الوسطى التى تحاول أن تحاصرنا فيه ليس فقط الدعاة المتعصبون، والتنظيمات المتخلفة، ولكن مناهج الدراسة ومحاذير البحث فى التراث والتاريخ الإسلامى.

يقول سليمان فياض فى حديث له: لا يمكن أن تتعلم العوم وأنت تتحدث عنه واقفاً على الشاطئ، يجب على الكاتب أن يذهب إلى حيث لم يذهب أحد بعد، ثم يقول: «لن تستعيد الكتابة عافيتها إلا إذا ساعدنا بنقد النفس ومحاسبة الذات على انبثاق روح الانتماء والحلم القومى».

سليمان فياض الحكيم، ونحن وأمثالى معه من عاشوا أحزان يونيو: نعرف أن الاعتراف بداية ضرورية، وأن محاسبة النفس قد تضعنا على الطريق الصحيح للتخلص من الأمية، وأمية المثقفين، أن نخلع كما قال نزار قبانى: قشرة الحضارة التى نكتسى بها لكى نخفى روح الجاهلية، الساكنة داخلنا، لكى نكتشف الأسلحة والطرق التى تمكننا من مواجهة الرباعى الساكن فى أرضنا: الفقر والجهل، والمرض، والفساد.

فى أدب القص تصدى سليمان فى كل كلمة كتبها للقضية الاجتماعية دون حساب أو خوف أو انتماء لفكر أيديولوجى جامد، من «أصوات»، حيث ينتهى بأن يسأل: هل ماتت المرأة الأجنبية التى وقع عليها الاعتداء.. أم أننا نحن «الأموات» وفى «لا أحد» يضع النقط على الحروف فى كل مسألة الخليج والهجرة وأموال النفط، وفى «القرين» يحاسبنا - ويحاسب نفسه، عن علاقتنا بالأسطورة والخرافة والتاريخ، وفى «حكايات النميمة» يعلمنا أن الفن لا يحاكم ولكنه يكشف ويعرى، ويدفع إلى التفكير. فى «أيام مجاور» يعيد بعث السيرة الذاتية كشكل من أشكال الفن الأدبى يستطيع أن يلعب دوراً مهماً فى إعادة ترتيب الأوراق التى تبعثرت بدعاوى الحداثة، والواقعية السحرية، والسريالية، وعبر النوعية، إنه الآن يذكرنا بصرخة العميد طه حسين سنة 1959: الآن تنتقل عاصمة الأدب إلى بيروت.

الحكيم سليمان فياض - رغم عزلته، وأمراض الشيخوخة التى لم تمنعه - مد الله فى عمره ومتعه بالصحة والقدرة على العمل - يطلق بـ«أيام مجاور»، وبهذه الطبعة الجديدة من كتابه المهم «الوجه الآخر للخلافة الإسلامية» صرخة تحذير وتنبيه بأن المواجهة الآن على كل الجبهات، وأن المواجهة الأمنية والعسكرية للإرهاب والتطرف يجب ألا تنسينا أن المهمة الأولى هى كشف الغطاء عن المستور، ومواجهة حقائق الحاضر والتاريخ.

أحزان يونيو مازالت جاثمة على القلب، لا يمكن أن يغطيها هذا السلام الهش، لن تزول أو تنقشع إلا إذا حرثنا الأرض والتاريخ بمحاريث الفكر الحر والمكاشفة، إلا بنقد الذات والاعتراف. الوجه الآخر للخلافة الإسلامية، محراث فلاحى قديم يشق ركاماً خانقاً من تاريخ مكذوب.

■ ■ ■

لا يمكن أن يكون الدين قناعاً لشىء، له فى الروح وفى الوجود الاجتماعى ما يمنع استخدامه «كقناع»، وقد طال هذا الاستخدام وعشنا دائماً فى ظل ظلام «قرون وسطى» شرقية تحاشينا أن نكشف عنها الحجاب.

مقاصد الدين، دين الإسلام، هى: العدل، وحرية الاعتقاد، والأمن والتكافل الاجتماعى، والإخاء، والمساواة، واستقلال بيت مال المسلمين عن بيوت أموال الحاكمين.

هذه المقاصد لم تتحقق بعد خلافة عمر بن الخطاب إلا شهوراً قليلة فى عهد عمر بن عبدالعزيز، الذى كان شعاره: «إن الله قد بعث محمداً، صلى الله عليه وسلم هادياً، ولم يبعثه جابياً»، وفى جداول الخلفاء غير الراشدين التى يسجل فيها الكتاب نسب ومدة خلافة وسبب وفاة الخلفاء الأمويين والعباسيين: يذكر أن عمر بن عبدالعزيز حكم سنتين وسبعة أشهر (717-720) ويشاع أنه مات مسموماً من أقاربه، وأنه كان عربى الأب والأم. الكتاب وثيقة جديدة صادقة مكتوبة بترتيب ناضج لا يخفى ولا يدارى: «يسعى سفهاء العقل، والذين لم يستفيدوا من دروس التاريخ وتجارب الخلافات الإسلامية إلى عودة نظام الخلافة، وهم يعلمون أن مثالب هذا النظام فى إدارة أمور الدنيا تطغى على أحلام الحالمين».

فى العصور الوسطى كان وجه الأرض كله، فى قارات العالم الثلاث، المعروفة فى تلك العصور، يحكم بأسر حاكمة تقدم لحكم الشعوب حكاماً يحملون ألقاب: الملك، والسلطان، والإمبراطور، وكان المقصود بلقب «الخليفة» فى عصر الخلفاء الراشدين: أن الحاكم خليفة، لأنه يخلف من سبقه، إلى أن اجترأ الخليفة «أبوجعفر المنصور»، فجعل الخليفة، خليفة الله سبحانه وتعالى فى أرضه، وظل الله الممدود على الأرض، ولعله وجد من الفقهاء ورجال الحاشية من يفسر له آية الاستخلاف لآدم بأنها تعنى أن الخليفة هو خليفة الله الذى اختاره الله ولم يختره العباد، والآية لم تعن أكثر من أن الجنس البشرى بأسره «من أبناء آدم» قد استخلفه الله فى الأرض، لتعمير الأرض.

■ ■ ■

أعاد الكتاب قراءة 40 كتاباً فى تاريخ الخلفاء، وقدم فى لغة سهلة بسيطة مباشرة تميز بها سليمان فياض، وخلص إلى نتائج مقلقة، لقد كانوا فى أغلبهم يريدون أن يكون الناس «بلا تفكير، ولا معرفة، ولا ذاكرة» الكل كان يحكم «بهواه باسم الدين»، النزاعات والمذابح والخلافات الفقهية الحقيقية، والمكذوبة كانت ستاراً لجمع الخراج، ولحياة الترف والبذخ الأسطورى الذى عاش فيه أغلبهم، للقتل والتعذيب والاضطهاد فى تاريخ الدولتين الأموية والعباسية أساطير لا تصدق وكلها كانت تتم تحت ستار الدين والخلافة، وفى وجود الفقهاء وأصحاب الفتوى والرأى الذين أوصلونا إلى ما نحن فيه الآن.

إنه مرجع جديد بالغ الأهمية، وجد الآن فى متناول الجميع، وبسعر رخيص وقد بذل فيه الصديق الحكيم سليمان فياض جهداً قومياً ودينياً وإنسانياً عظيم الدلالة، يقول فى نهاية المقدمة: روى عن الرسول، صلى الله عليه وسلم: «أخوف ما أخاف على أمتى رجل منافق، عليم اللسان، غير حكيم القلب يغيرهم بفصاحته وبيانه، ويضلهم بجهله».

وقد ابتليت الأمة الإسلامية بكثير منهم فى كل العصور.

الوجه الآخر للخلافة الإسلامية - سليمان فياض - مكتبة الأسرة 2014