يدهش المرء من حجم الأخبار المتضاربة والتصريحات المتناقضة التى تحيط بالمرحلة التمهيدية لانتخابات مجلس النواب القادم، واللافت فى الأمر أن الأخبار تدور حول مجموعة محدودة من الأشخاص، وكأنما جرى اختزال العمل النيابى فى بضعة أفراد تتحدد من خلالهم ملامح البرلمان الجديد وتشكيل لجانه واختيار رئيسه، وهى أمور توحى فى مجملها بأننا نقوم بعمل معكوس حيث نختار المجلس من قمته وليس من قاعدته، وفى ذلك مخالفة صريحة لفلسفة النظام الديمقراطى وتاريخ العمل البرلمانى، ولنا هنا بعض الملاحظات المبدئية حول ما جرى ويجرى على الطريق نحو «مجلس النواب» القادم:
أولاً: إن هناك فارقًا كبيرًا بين الائتلافات الانتخابية والتحالفات البرلمانية، لذلك فإننى ممن يدركون أن محاولات التكتل والانضمام لجبهات معينة أو أحزابٍ بذاتها تمهيدًا لدخول الانتخابات هى عملية سابقة لأوانها، فالأجدى من ذلك هو أن نسعى لترتيب البيت من الداخل على ضوء نتائج الانتخابات فعندها سوف نكون قادرين على تحديد تركيبة المجلس الجديد والتشكيلة النهائية للعضوية فيه، عندئذٍ يكون التحالف مطلوبًا والائتلاف مجديًا، أما أن نراهن على ذلك قبل الانتخابات فذلك وهم كبير، خصوصًا أن الانتخابات البرلمانية القادمة فريدة من نوعها بسبب التوقيت الذى تجرى فيه، كما أنها تأتى فى أعقاب ثورتين شعبيتين فى السنوات الأربع الماضية.
ثانيًا: قد يمكن التنبؤ بتشكيل «مجلس للوزراء» ولكن التنبؤ بتشكيل «مجلس للنواب» أمرٌ ليس بهذه السهولة، لأنه يتعلق بإرادة الملايين من الشعب المصرى والذين يصعب قراءة توجهاتهم بدقة، خصوصًا فى الانتخابات البرلمانية وذلك خلافًا للانتخابات الرئاسية التى قد يكون التنبؤ فيها أكثر سهولة، ولا يستطيع سياسى مهما كانت درجة حصافته وخبراته أن يقطع بتحديد نسب تمثيل القوى المختلفة فى «البرلمان»، ولا يستطيع أيضًا أن يحدد حظوظ «الأحزاب» المختلفة فى المجلس الجديد، ولذلك فإن ما نراه الآن يبدو مثيرًا للدهشة ومصدرًا للاستغراب، إذ قد تحمل الانتخابات البرلمانية مفاجآتٍ غير متوقعة وهو أمر يحدث فى معظم دول العالم وفى كل الظروف.
ثالثًا: إنه مما يثير الدهشة أيضًا أن يدور الحوار السياسى حاليًا حول «القوائم» بينما قد تشكل «المقاعد الفردية» العصب الحقيقى للبرلمان، وقد فطنت بعض الأحزاب إلى هذه الحقيقة فأدارت ظهرها للقوائم وبدأت فى التركيز على المقاعد الفردية، وهى وجهة نظر تبدو معقولة لأن القوائم سوف تضم شخصيات ونوعيات من «شباب» و«مرأة» و«أقباط» و«ذوى احتياجات خاصة» و«ممثلين للخارج»، لذلك فإنها قد لا تضم «نشطاء سياسيين» ولا حزبيين بالقدر الكافى، وهنا يكون الاهتمام بالمقاعد الفردية أمرًا مطلوبًا قد يسبق فى أهميته القوائم ذاتها.
رابعًا: أرجو ألا يندهش الكثيرون إذا وجدنا من نسميهم «فلول عصر مبارك» أو «فلول حكم الإخوان» وهما يتصدران بعض الدوائر الانتخابية خصوصًا فى الريف والمدن الصغيرة، كما لا يجب أن ننسى وزن «العائلات» التقليدى ومكانتها التاريخية خصوصًا فى «صعيد مصر» و«ريف الدلتا»، وأريد أن أقرر هنا أننى لا أستغرب وصول «الفلول» من كل اتجاه مع تحفظى الشديد على هذه الكلمة وما يلحق بها من تداعيات سلبية على المشهد السياسى، بل إننى أرى أن ثمانية وثمانين عضوًا من جماعة «الإخوان» فى برلمان 2005 إنما يندرجون أيضًا ضمن «فلول عصر مبارك» بكل ألوانه وأطيافه.
خامسًا: إن خطورة «مجلس النواب القادم» تكمن فى صلاحياته الواسعة وفقًا للدستور الجديد فضلاً عن أنه المجلس المنوط به تعديل بعض مواد الدستور الذى جرى الاستفتاء عليه، كما أن هناك غابة كثيفة من التشريعات الجديدة والتعديلات المطلوبة نتيجة وجود الدستور الجديد بصورة تعكس التحولات التى طرأت على النظام السياسى فى السنوات الأخيرة، ويجب ألا ننسى هنا أن تراجع صلاحيات الرئيس فى الدستور الجديد سوف يكون دافعًا لمراجعة بعض المواد وتحقيق التوازن المطلوب داخل المجلس النيابى.
.. هذه ملاحظاتٌ عابرة هدفنا منها التعليق على ما يجرى فى الساحة المصرية حاليًا، واضعين فى الاعتبار أن ثلاث سنواتٍ أو أربعا لا تكفى لتغيير المسار المصرى ولن نجد فجأة نوابًا من «المريخ» فى البرلمان الجديد! فالعائلات هى العائلات والقرية هى القرية والمدينة هى المدينة، وعشق السلطة والاحتماء بها تقليدٌ مصرى معروف، ويكفى أن نتذكر أن أجدادنا كانوا متحمسين «لحزب الوفد» باعتباره حزب الأغلبية ووعاء الحركة الوطنية، ثم انخرط بعضهم بعد ثورة يوليو 1952 فى «هيئة التحرير» ثم «الاتحاد القومى» «فالاتحاد الاشتراكى» ثم «حزب مصر» «فالحزب الوطنى»، وهؤلاء أنفسهم داعمون للحكم الحالى والرئيس الجديد امتدادًا لتقاليد سياسية مستقرة فى وجدان الشعب المصرى عبر العصور!