جاءت زيارة الرئيس السودانى عمر البشير إلى القاهرة فى الأسبوع الثالث من أكتوبر ردًا على الزيارة الخاطفة التى قام بها الرئيس السيسى إلى الخرطوم فى طريق عودته من مالابو فى يونيو الماضى، والتى كانت بدورها استجابة مصرية سريعة وواضحة لزيارات سودانية سابقة إلى القاهرة، كان آخرها وفد التهنئة الذى شارك فى حفل تنصيب الرئيس السيسى.
المغزى الرئيسى لهذه الزيارات هى أنها تشير الى توافر إرادة سياسية لدى الجانبين المصرى والسودانى لتجاوز صفحة الفتور المشوب بالتوتر التى أعقبت سقوط إخوان مصر فى ثورة 30 يونيو. ورغم أن الموقف الرسمى للخرطوم حينذاك جاء متحفظًا، عبر القول بأن ما يجرى فى مصر هو شأن داخلى إلا أن الموقف الذى عبرت عنه العديد من المظاهرات والفعاليات السودانية كان يُفصح عن مزيج من مشاعر الإحباط وخيبة الأمل، من جراء تهاوى أحلام كبرى كانت قد ازدهرت، بتحول المنطقة الممتدة من دولتى وادى النيل فى مصر والسودان وصولًا إلى ليبيا وتونس غربًا وغزة وسوريا شمالًا، إلى رقعة محكومة بتيار الإسلام السياسى الذى يقوده التنظيم الإخوانى بتجلياته المختلفة.. وكان من المنتظر بالطبع أن يقوم هذا التكتل بعملية إعادة صياغة المنطقة العربية وخرائطها وتوجهاتها، تحت رعاية وبالتنسيق مع أطراف دولية وإقليمية محددة.
غير أن التحديات التى يواجهها السودان تجبره دائما على اتباع التفكير العملى البراجماتى القائم على الحقائق والمصالح، وهذه سمة ملازمة للحركة السودانية منذ أن تسلم قيادتها حسن الترابى فى عام 1964، ثم أوغلت بعد ذلك فى هذا الاتجاه. ومن ثمّ فليس مثيرًا للدهشة أن تسعى الخرطوم لطى الصفحة السابقة بهذه السرعة، حيث إنها تواجه ظروفًا داخلية وإقليمية صعبة، ومن ثمّ فليس من صالح استقرار وأمن نظام الإنقاذ الذى يقوده البشير أن يعادى جارته الشمالية فى مثل هذه الظروف.
فى المقابل، نجد أن الرئيس السيسى قد استجاب للإشارات السودانية بطريقته الخاصة التى غلب عليها الحرص على التوجه المباشر نحو الهدف، واختصار الزمن والمسافات، عبر إحياء تقاليد الدبلوماسية الرئاسية، فتوجه مباشرة لزيارة الخرطوم. والقاهرة، كما هو واضح، تسعى لتأمين حدودها الجنوبية من مخاطر التنظيمات المتطرفة التى قد تنطلق من السودان خاصة بعد ازدياد أعداد الإخوان وحلفائهم الهاربين إلى هناك، لاسيما بعد نشر تقارير عدة عن اتجاه قطر لتمويل معسكرات للإخوان داخل أراضى السودان، فضلًا عمّا يثار دائمًا عن تهريب الأسلحة عبر الدروب الصحراوية.
هذه القضايا تمت الإشارة إليها فى البيان الختامى لزيارة الرئيس البشير بعبارة موجزة، وكان من الواضح أن التفاهمات بين البلدين فى هذا المجال قد قطعت أشواطًا معقولة، أدت إلى موافقة البلدين فى وقت سابق على افتتاح معبر قسطل/ أشكيت البرى، بعد أن تكرر التأجيل قبل ذلك عدة مرات.
القضية الثانية فائقة الأهمية فى علاقات البلدين هى أزمة مياه النيل، وهذه لها مسار أكثر تعقيدًا بحكم تداخل قوى أخرى فى هذه القضية، حيث يسعى السودان لأن يُموضع موقفه فى دور «المسهل» فى العلاقات المصرية- الإثيوبية. غير أن هذا لا يغطى على حقيقة أن هناك افتراقًا فى مواقف البلدين من قضايا المياه لأول مرة منذ عقود، وأن هناك تحالفًا مع إثيوبيا، الأمر الذى ستكون له تداعياته طويلة المدى على علاقات البلدين.
فى التقييم الأخير يمكن القول إن هذه الزيارة تمثل نقطة بداية جديدة على مسار متعرّج، اتسم دائمًا بدورة متعاقبة من التحسّن ثم التوتر، غير أن ما يحدث على الجانبين المصرى والسودانى من تغيّرات هائلة سوف يجبر الطرفين على الانتقال من مرحلة «التفاهم على كف الأذى»، إلى مرحلة تالية يعاد فيها تعريف المصالح من جديد، وما سوف يتبع ذلك من تغيّر الرؤى والأهداف والاستراتيجيات، فالسودان انشطر إلى دولتين مع ما يترتب على هذا من إعادة صياغة التوازنات فى حوض النيل، وتباعد موقفه عن مصر فى قضايا المياه. وعلى الناحية الأخرى تغيّرت مصر أيضًا بعد ثورتين كبيرتين فى وقت وجيز، بما يعنى تغيّر التحديات وربما الفرص، فى منطقة أصبحت السيولة سمتها الأساسية.