تجاوزت الطلعات الجوية للتحالف الغربى فوق العراق وسوريا، حتى أكتوبر المنصرم، الـ2000 غارة، من بينها 350 غارة، سببت نزيفا يوميا لدماء مدنيين بالخطأ، ولاقتصاديات تتعرض بنيتها التحتية ومنشآتها للتدمير، ولخزائن عربية ستجبر على التمويل.. 7 نوفمبر الجارى تكتمل ثلاثة أشهر على بدء العمليات، المراجعة والتقييم الموضوعى مطلوبان، و«تقدير موقف مبدئى» قد يسهم فى تعديل المسار.
عقب اجتياح «داعش» الموصل أرسلت واشنطن مستشارين وخبراء مخابرات للعراق، تفقدوا الوحدات العسكرية، مستوى التسليح والإدارة، ومدى استعداد الجنود والقيادات والتشكيلات للقتال، وأعدوا تقييماً للوضع الميدانى. ما تسرب منه يشير إلى «أن الجيش العراقى يحتاج من ثلاث إلى خمس سنوات لاستعادة الأراضى الخاضعة لـ«داعش»، وانتقد الاعتماد على متطوعين شيعة فى معارك تحرير المناطق السنية «تكريت والرمادى وديالى»، لأنه يصبغ المعارك بصفة حرب الميليشيات الطائفية، ويحرم الجيش من تعاون الأهالى. التقييم أوصى الحكومة العراقية بزيادة نسبة الضباط السنّة والأكراد المنتمين للمناطق المراد تحريرها، لأنهم أقدر على اكتساب ثقة السكان والعشائر، وحذر من أن عدم خضوع الميليشيات لسلطة قيادات الجيش يشجعها على ارتكاب مخالفات دون محاسبة، وانتقد تدمير الطيران العراقى للبنية التحتية والمنازل، سواء بالخطأ، أو بدعوى إيوائِها الإرهابيين، أو لدفع السكان للهجرة لمهاجمتها، بعد اقتصارها على المسلحين، مشيراً إلى أن 80% من ضحايا الغارات العراقية من السكان المدنيين، وكشف عن تدريب إيران للمتطوعين الشيعة، وتشكيل وحدات الميليشيا وتسليحها، لإنشاء جيش موازٍ للجيش النظامى، يدين بالولاء لطهران، مما يمس مقومات الدولة العراقية ووحدتها.
التقرير لم يشر بالطبع إلى أن الولايات المتحدة هى التى تولت بناء الجيش العراقى، بعد تسريحها لجيش صدام، وتقاضت عن ذلك أكثر من 25 مليار دولار، وبالتالى فهى مسؤولة عن أى قصور، كما لم يشر إلى أن أسس التمييز الطائفى داخل الجيش والمجتمع العراقى قد زرعتها إدارة الاحتلال لتفتيت الدولة، قبل أن تدرك تبعاتها عليها وعلى المنطقة.
استراتيجية التحالف تعتمد على الغارات الجوية، دعم القوات البرية العراقية والكردية، تجفيف منابع تمويل «داعش»، المساعدة الإنسانية للمدنيين. والهدف: القضاء على تهديدات «داعش» للأمن والسلم العالميين.. نفس الهدف المعلن للحرب ضد القاعدة منذ 11 سبتمبر 2001.. تنظيمات تصنعها أمريكا لتبرير تدخلها، ثم تحاربهم بمبررات.. تجاوز الحد، استنفاذ الغرض، أو لترسيخ وجودها.
الموجة الأولى من القصف اعتمدت على صواريخ الأسطول الأمريكى «كروز توماهوك» بشمال الخليج والبحر الأحمر، بعدها بدأت الغارات، 90% منها أمريكية، و10% لدول التحالف، الدول الغربية يهمها الحد من مخاطر مقاتليها المتطوعين بصفوف الجماعات الإرهابية 100 مواطن أمريكى- 500 بريطانى- 930 فرنسيا...، لذلك استهدفت الغارات الأولى على سوريا «جماعة خراسان» التابعة للقاعدة، التى كانت تستعد لعمليات بالولايات المتحدة وأوروبا، ونجحت فى قتل زعيمها محسن الفضلى، كما استهدفت مقار وملاجئ «داعش»، ومستودعات الذخيرة، ومعسكرات التدريب والثكنات والآليات، ومنشآت تكرير النفط.
تأثير الغارات كان محدوداً، قصور المعلومات حال دون استهداف القيادات ومقارهم السرية، والتنظيمات أخلت مقارها، وأعادت الانتشار وسط السكان، وأخفوا دباباتهم بين البيوت، وبعد أن كانت مركباتهم تتحرك فى صفوف طويلة تحمل راياتهم، أصبحوا يتنقلون فرادى، الغارات دمرت بعض محطات تكرير البترول؛ ما سبّب أزمة وقود بالمناطق الخاضعة لـ«داعش»، لكن ذلك لم يؤثر على إيراداتها «2 مليون دولار يوميا»، لأن أغلب مبيعاتها من البترول الخام، المستخرج من نحو مائة بئر، معظمها لا يزال منتجاً، المخابرات الأمريكية تعكف على تعويض ذلك بإنشاء شبكة عملاء من بين المجاهدين الذين تدربوا فى العامين الماضيين بمعسكراتها فى الأردن.
تقييم القيادة العسكرية الأمريكية الوسطى، المسؤولة عن الحرب على «داعش»، للغارات كان سلبياً.. غالبية الضحايا والمنشآت مدنية، القواعد العسكرية التى استُهدِفَت خلت من عناصر التنظيمات الإرهابية، وتكلفت ميزانيات ضخمة، حتى استخدام مروحيات الأباتشى لمحاولة تحقيق تقدم على الأرض- لم تكن نتائجه مرضية، وأدى لإسقاط طائرة على جبل سنجار منتصف أغسطس وأخريين فى أكتوبر بصواريخ ستريلا. الرئيس الإيرانى (روحانى) وصف الغارات بمسرحية لاعلاقة لها بالحرب ضد الإرهاب، وكتلة الأحرار التابعة للتيار الصدرى اتهمت الطائرات الأمريكية بقصف قوات الحشد الشعبى العراقية، وإسقاط 3 شحنات أسلحة وذخائر لقوات «داعش»، المحاصرة فى جلولاء، والبنتاجون اعترف بأن طائراته ألقت أسلحة وإمدادات عسكرية لداعش بطريق الخطأ.
إجماع الخبراء على أن الغارات الجوية لا تكفى لدحر «داعش»، لكنها وسيلة لدعم هجوم برى- أحرج البنتاجون ودعاه لزيادة عدد المستشارين العسكريين وخبراء الأمن لـ1600، وقرر إيفاد قوة تدخل سريع من المارينز للكويت قوامها 2300 عنصر، واستضاف رؤساء أركان دول التحالف بقاعدة أندروز قرب واشنطن منتصف أكتوبر لبحث تشكيل قوة برية، أوباما حضر جانباً من الاجتماع، وقرر إرسال قيادات عسكرية أمريكية للعراق، للمشاركة فى إدارة المعارك و500 من جنود الفرقة المدرعة الأولى، للحيلولة دون وقوع بغداد فى مرمى نيران «داعش».
البنتاجون أكد مشاركة السعودية فى تدريب المعارضة السورية، والخارجية أكدت مشاركة تركيا، عملية التدريب ستستغرق عاما كاملا، لـ5000 عنصر- 3000 بالسعودية، 2000 بتركيا، وتتضمن التدريبات حرب الشوارع والمناطق الجبلية الوعرة، وتكتيكات الهجوم على الحواجز والثكنات العسكرية، وعمليات القنص واستخدام الأسلحة والمتفجرات.. التحاق ذلك العدد المحدود بالجبهة بعد عام لن يغير توازنات القوى، وقد تتجاوزهم التطورات، ليصبحوا مجرد عملاء ضمن خلايا تعتمد عليها المخابرات الأمريكية كركائز بالمنطقة.
مركز تقييم الاستراتيجيات والميزانية (CSBA)- إحدى المؤسسات البحثية المتخصصة فى سياسات الدفاع وتخطيط القوى والميزانية بواشنطن- كشف عن أن تكلفة الغارات الجوية التى نفذتها الولايات المتحدة حتى أول أكتوبر 2014 بلغت مليار دولار، وأنها سوف تتراوح شهرياً ما بين 200 إلى 320 مليونا بافتراض مواصلة الغارات بوتيرتها الراهنة، وإرسال 2000 جندى من القوات البرية، أما فى حال تصعيد الغارات الجوية وإرسال 5000 جندى فإن التكاليف ستتراوح بين 350 و570 مليون دولار فى الشهر، وإذا توسعت العمليات العسكرية مع نشر 25 ألف جندى، فإن الخطوة ستكلف واشنطن 1.1 إلى 1.8 مليار دولار فى الشهر.
***
«داعش» مستقرة وتتمدد، والغارات الجوية لم، ولن تغير توازنات القوى، مالم تعقبها قوات مشاة تطهر، وتحتل. الموقف المصرى من الحرب على داعش اتسم منذ بداية الأزمة بالحكمة والرصانة، دعم الحرب على «داعش» كجزء من حرب شاملة على التنظيمات الإرهابية بالمنطقة.. «القاعدة» و«أنصار بيت المقدس» و«جند مصر» و«أنصار الشريعة»... إلخ، دور مصر فى التحالف يستند إلى عدة محاور: الدعم المخابراتى واللوجيستى، عمليات عسكرية مكثفة ضد امتدادات «داعش» فى سيناء والصحراء الغربية، السيطرة على الحدود والمنافذ البرية والبحرية والجوية لمنع انتقال المقاتلين، تجفيف منابع تمويل التنظيم، والسيطرة على حركة التحويلات النقدية، التعاون فى مجال التدريب لرفع الكفاءة القتالية للجيش العراقى والليبى، دور الأزهر فى دحض الادعاءات الخاصة بتمثيل «داعش» للدولة الإسلامية، رفض إسباغ صفة التحالف السنى على التجمع العربى المضاد لـ«داعش»، اتقاءً لشبهة الطائفية، ضرورة الحفاظ على سيادة ووحدة أراضى سوريا والعراق، وأخيراً رفض تحول الحرب على «داعش» إلى حرب مفتوحة، وضرورة وضع أهداف محددة لها، ونطاق جغرافى، وجدول زمنى يحكمها.. عناصر تشكل استراتيجية واعية متكاملة، تعكس عودة الدولة المصرية لممارسة دورها القيادى بالمنطقة.