عن معنى ظاهرة «زويل الصغير»

عمرو الزنط الجمعة 31-10-2014 21:16

يطل علينا من وقت لآخر ما يسميه أحيانا الإعلامى المضيف «زويل الصغير»، فى إيحاء بأن الضيف على وشك نوبل الناتجة عادة عن «تحطيمه» المفترض لنظريات أينشتاين.. ثم يتضح أن الشاب لا يفهم أنه لا يمكن فى زمننا هذا «تحطيم أينشتاين» عن طريق المنطق، لأن عددا كبيرا جدا من العلماء قد راجع النظرية من حيث التناسق المنطقى، أى من حيث تسلسل نتائج النظرية من افتراضاتها الأساسية (كثبوت سرعة الضوء، بصرف النظر عن سرعة مصدره).

فالاتفاق على صحة الاستنتاجات المنطقية والرياضية يحدث بسهولة نسبية، فيتفق على مدى صحتها كل من درسها وفهمها جيدا، وعادة ما يكون ذلك الاتفاق باتا ونهائيا. وبالنسبة لنظريتى النسبية لأينشتاين (الخاصة والعامة)، فذلك الاتفاق على الاتساق المنطقى للنظرية قد تبلور منذ ما يقرب من قرن من الزمن. بل إن هذه الظاهرة المهمة وراء ثبات النظريات الرياضية البحتة عبر العقود (والقرون)، مع تغير نظريات العلوم الطبيعية المستمر، لأن الأخيرة معرضة للتفنيد العملى المعملى.

إذن، مازال من الممكن «تحطيم» نظريات أينشتاين- ليس بالتفنيد المنطقى البحت، إنما عن طريق التجربة المعملية. لكن لا يبدو أن أحدا قد لقن شبابنا هذه المعلومة، لأنى لم ألاحظ كلاما كثيرا من جانبهم عن التجارب التى قاموا بها لتحطيم أينشتاين.. بل من الواضح أنهم غير مدركين مدى نجاح نظرياته تجريبيا: لا يتكلمون عن تجارب مركز البحوث النووية الأوروبى، الذى ينجح فى إحداث تصادمات للبروتونات على سرعات تفوق 99.999% من سرعة الضوء، مستخدما النسبية الخاصة لأينشتاين، أو عن الإرصادات الفلكية العديدة التى تؤكد انحناء الضوء تحت تأثير الجاذبية، كما تتنبأ النسبية العامة لأينشتاين وبدقة.

بل لا يخبرنا أحد منهم عما إذا كان لديه بديل لنظريات أينشتاين يمكن أن يشرح الكم الهائل من الأدلة المعملية التى تشرحها تلك النظريات، فمن المعروف والمعهود أن أى منظومة جديدة يجب أن تؤول للنظرية الأصلية فى مجال تطبيق الأخيرة، كما تؤول مثلا النسبية العامة لجاذبية نيوتن عندما يتعلق الأمر بمجالات جذب ضعيفة، وتؤول ميكانيكا الكم لميكانيكا نيوتن عندما يتعلق الأمر بعالم الأجسام المركبة كبيرة الحجم.. إلخ.

وبمناسبة ميكانيكا الكم، لماذا لا يحطم العلماء الصغار ميكانيكا الكم كما يحطمون أينشتاين نمطيا، خاصة أن ميكانيكا الكم تلك لها تنبؤات عجيبة أغرب من نسبية أينشتاين بكثير، حتى إن تفسيرها قد حير أينشتاين نفسه، ويحير بعض أعظم العقول العلمية حتى يومنا هذا؟ ربما لأن الجدل بشأنها لم يصلهم بعد؟ وربما لنفس السبب لا يحاولون تحطيم نظريات معاصرة، قد يكون الصراع معها أقل صعوبة، لأنها مازالت حديثة وتحت الاختبار الأولى (المعملى والمنطقى أيضا فى هذه الحالة، والأخير أسهل بالطبع لمن لا تتوفر لديه الإمكانيات المعملية).

«تحطيم أينشتاين» له بريق إعلامى خاص بالطبع، و«غرابة» بعض تنبؤات نظرياته ربما تحرك نزعة «الشهامة» لدى من يريد أن يستعيد لنا عالما مريحا ومعهودا، حيث الزمان والمكان المطلق.. لكن الغرام بتحطيم نظريات قد تم الانتهاء من أهم عناصرها عام 1916، مع تجاهل تطورات علمية مذهلة، وأكثر «غرابة» بمراحل، يعبر عن عزلة مزعجة عن العالم المعاصر وتطوراته العلمية، فى ظل تباعد فكرى وثقافى عام عنه.

أما مدى عمق المأزق فيتجسد فيمن يطلق عليهم إعلاميون كبار لقب «علماء صغار».. خاصة عندما يتضح أنهم يفتقرون لأبسط القواعد المؤسِّسة للفكر العلمى، مثل معرفة الفرق بين التفنيد المنطقى والتفنيد العملى.

وأهمية أن تؤول أى نظرية جديدة لزميلتها القديمة فى مجال تطبيق الأخيرة، حتى تحتوى النظرية الجديدة على إنجازات النظرية السابقة دون مساس بها.