عودة إلى الصياد الذى أنقذ سمكة من الغرق

جمال الجمل السبت 18-10-2014 21:35

كتبت منذ شهرين مقالاً بعنوان: (الخواجة ليس على رأسه ريشة.. «نيويورك تايمز» صحيفة صفراء، وكيركباتريك «ضريب» تقارير).

لم تكن الضجة المثارة حاليا حول الصحيفة الأمريكية قد بدأت، لأننا كالعادة نظل نتغزل فى الخواجة حتى يثبت العكس، مع أن الخواجة مدير مكتب الصحيفة فى الشرق الأوسط، يفتقد للمصداقية من زمان، وتتسم تقاريره من القاهرة بالضعف المهنى، والانحياز، وعدم التوازن فى المصادر.

وكنت قد بدأت، منذ فبراير الماضى، سلسلة مقالات فى نقد الإعلام تحت عنوان: «الصياد الذى أنقذ سمكة من الغرق»، ولما فوجئت بإعلامنا ينقل عن «نيويورك تايمز» تقريرا أثناء العدوان الإسرائيلى الأخير على غزة بعنوان «الحكام العرب يكرهون حماس أكثر من إسرائيل»، وبعضهم استخدم عنوانا معلوماتيا صريحا من نوع: «مصر تقود تحالفًا مع إسرائيل ضد حماس»، ولما عدت إلى النص الأصلى، وجدت أن الترجمة غير دقيقة، لأن كيركباتريك كثيرا ما يستخدم التورية، والأسلوب الملتبس، ما يساعد على اختلاط المعنى على القارئ المتعجل، وهى نفس المشكلة التى وقعت فيها صحيفة الأهرام الأسبوع الماضى، قبل أن تتنصل منها وتلقى بالفضيحة على وكالة الأنباء الرسمية!

على كل حال، أخطاء الترجمة ليست مشكلة كبيرة، إذا كانت ناتجة عن سوء فهم، أو حتى عن جهل وتدنى مستوى، وقد تعودنا على هذا الجهل منذ سخر سارتر من ترجمتنا للوجودية، واندهش جاك دريدا من فهم مثقفينا الخاطئ لنظريته التفكيكية.

المشكلة الكبيرة تبدأ من «سوء النية» وليس من «سوء الفهم»، وهذا هو المبدأ الذى اشترطه القانون الأمريكى لإدانة الصحف فى قضايا النشر، بعد الحكم الذى صدر منذ نصف قرن بإدانة «نيويورك تايمز»، وتغريمها نصف مليون دولار أمريكى فى القضية المشهورة باسم «نيويورك تايمز ضد سوليفان».

حاولت أن أتعامل بحسن نية، فاعتبرت أن أخطاء الترجمة مجرد جهل أو التباس، أو بتعبير مهذب «عدم دقة»، فالنص الذى نشرته الوكالة (ونقلته الأهرام دون تدقيق أو عودة للمصدر) صحيح وموجود ضمن تقرير كيركباتريك، لكنه مسبوق بجملة استهلال توضح أنه «اقتباس من وسائل الإعلام المصرية» سخر منه المراسل وانقلب عليه، لكن المترجم لم يتعرف على انتقادات ديفيد كيركباتريك، ولم يصدق صورة الصياد وهو يهاجم السمكة، تخيله نصيرا يحاول إنقاذها من الغرق!

لا أحب أن أتمادى فى ثنائية (الجاهل والشرير)، فمن الصعب الدفاع عن الاثنين، بعد أن تحول سلوكهما إلى أسلوب، فالغفران الجيد يقتصر على الأخطاء الأولى، حسنة النية وفقط، لكننى بعد أن انتهيت من الجاهل اكتشفت أن الشرير كيركباتريك متحامل ومنحاز ويخالف المهنية بتعمد، طبعا أنا أقدر الظروف الصعبة التى يتعرض لها المراسل الأجنبى من أجل الحصول على معلومة فى بلد يكره الشفافية وتداول المعلومات، لذلك أغفر له مبدأ الاستعانة بالأصدقاء المحليين، سواء كانوا من المثقفين والنشطاء، أو حتى من «خرتية الصحافة»، وجنرالات الرأى على مقاهى وسط البلد، لكن المراسل عليه أن يفند الآراء، ويسعى لنقل الصورة الموضوعية، ولا يتأثر بالانحيازات الحزبية أو المزاجية لأصدقائه، والأهم طبعا ألا يكون هو نفسه صاحب غرض شخصى يمارسه متعمدا لصالح جهة ما (استخباراتية أو سياسية أو مالية).

وبعد تحليل مضمون لعشرات التقارير التى نشرها كيركباتريك، وجدت الكثير من أخطاء التسرع والانحياز، وعدم التوازن فى المصادر، والسطحية فى فهم الوضع المصرى، وتغليب رأيه الشخصى فى القصة الخبرية، وهذه السمات تنقلنا إلى المأزق الكبير لصحيفة «نيويورك تايمز» نفسها، فقد طاردتها عشرات الفضائح المهنية، من انحياز وتلفيق و«فبركة»، وهى تهم أثبتتها أحكام قضائية، واستقالات مدوية، ودراسات إعلامية جادة فى أمريكا نفسها.

■ هل يكفى هذا لوصف ثالث أكبر صحيفة أمريكية بأنها «صفراء»؟

- المحزن أن «التايمز» ليست وحدها «الكبيرة الصفراء»، فمصيبة الإعلام «كبيرة وصفراء»، هناك وهنا، وفى المقالات المقبلة أقتحم وكر الثعبان.. والله المستعان.

tamahi@hotmail.com