أشرع فى كتابة هذا المقال، بينما لاتزال المشاورات تجرى بين رئيس الوزراء المهندس «إبراهيم محلب» من جانب، وبين الزميلين «جلال عارف» - رئيس المجلس الأعلى للصحافة و«ضياء رشوان» - نقيب الصحفيين - من جانب آخر، للبحث عن حل للمشكلة التى أثارها صدور قرار رئيس الوزراء، يوم السبت الماضى، بتشكيل لجنة من ثمانية أعضاء، لوضع ما سماه القرار «تصوراً لمهام الأجهزة المنصوص عليها فى المواد 211 و212 و213 من الدستور وأهدافها وتنظيمها و«الأجهزة» التى تنص عليها هذه المواد هى: «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام»، الذى يختص بتنظيم شؤون الإعلام المسموع والمرئى وتنظيم الصحافة المطبوعة والرقمية وغيرهما، و«الهيئة الوطنية للصحافة» التى تختص بإدارة المؤسسات الصحفية المملوكة للدولة، وأخيراً «الهيئة الوطنية للإعلام» التى تختص بإدارة المؤسسات الإعلامية المرئية والإذاعية والرقمية المملوكة للدولة.
ولا تكمن المشكلة التى أثارها هذا القرار فقط فى أن تشكيل اللجنة قد خلا من ممثلين للمجلس الأعلى للصحافة ونقابة الصحفيين، فضلاً عن خلوه من ممثلين لنقابة الإعلاميين «تحت التأسيس» وللمهنيين العاملين فى مجال الإعلام بالقطاع الخاص، أو فى أنه تجاهل أن هناك بالفعل لجنة تضم هذه الأطراف للقيام بمهمة إعداد اقتراحات بمشروعات قوانين تتعلق بهذه الأمور وغيرها، جرت المشاورات لتشكيلها منذ صدر الدستور - بل تكمن المشكلة - أساساً - فى أن المهمة التى يكلف القرار لجنة الثمانية بالقيام بها، تقتصر على ما يتعلق بتشكيل هذه الأجهزة الثلاثة واختصاصاتها، وهى فكرة «بيروقراطية» تجاوزها الصحفيون والإعلاميون، خلال مناقشاتهم حول المهام التى يتوجب على اللجنة التى تمثلهم أن تقوم بها، وانتهوا إلى أن هذه المهمة هى وضع اقتراحات بمشروعات قوانين مكملة لمواد الدستور التى تتعلق بحرية الصحافة والإعلام جميعها، بما فى ذلك - بالطبع - المواد ذات الصلة بهذه الأجهزة الثلاثة.
ما يلفت النظر فى قرار رئيس الوزراء، أنه اختار من مواد الدستور، المتعلقة بحرية الصحافة والإعلام، ثلاث مواد فقط، وتجاهل ثلاث مواد أخرى - على الأقل - منه، تتعلق بالجوهر وليس بالشكل، وبالحرية وليست بالبيروقراطية، هى المواد 70 و71 و72 التى تضمن حرية الصحافة والإعلام، وتؤسس لما يمكن تسميته «نظاماً إعلامياً جديداً» مع أن من بين مهام هذه الأجهزة أو المجالس - طبقاً لنص الدستور نفسه - ضمان حرية الصحافة والإعلام المقررة بالدستور والحفاظ على استقلالها وحيادها وتنوعها.
والمواد الدستورية الثلاث، التى أخرجها قرار الحكومة من اختصاصات لجنة الثمانية، هى المواد التى تكفل حق إصدار الصحف وأجهزة الإعلام للأشخاص الطبيعيين، وتنص على حرية إصدار الصحف بمجرد الإخطار، وتحظر - بأى وجه - فرض عقوبات سالبة للحرية فى جرائم النشر، وتحظر - بأى وجه - فرض رقابة على الصحافة والإعلام أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها، وتضمن استقلال الصحف ووسائل الإعلام المملوكة للدولة لتكون «تعبيراً عن كل الآراء والاتجاهات السياسية والفكرية والمصالح الاجتماعية».
فكيف يمكن للأجهزة الثلاثة، التى كلفت لجنة الثمانية بوضع قوانينها، أن تضمن هذه الحقوق والحريات، والقوانين التى تنظم ممارستها؟ لم تصدر بعد، ولاتزال القوانين الحالية - بحكم نص الدستور نفسه - قائمة ونافذة، إلى أن يتم تعديلها أو استبدال غيرها بها.. وما هو مبرر العجلة أصلاً، وهناك عشرات - بل ربما مئات - من مشروعات القوانين المكملة للدستور، لم يفكر أحد فى تشكيل لجان لإعداد مشروعات قوانين لها، أم أن الهدف من الإسراع باستصدار قوانين تشكيل هذه المجالس والهيئات - التى سماها قرار رئيس الوزراء «الأجهزة» - هو - كما يقول بعض المستريبين - نقل مهمة وضع القوانين التى تتعلق بتحرير الصحافة إليها، وبذلك يكون الإعلام زيت الحكومة فى دقيقها ولجنتها فى أجهزتها، وأجهزتها فى قوانينها، وتستلب من الجماعة الصحفية والإعلامية حقها المشروع فى اقتراح مشروعات القوانين التى تؤسس لنظام إعلامى جديد يقوم على الحرية والمسؤولية، مع أن صاحب الفضل فى اقتراح بنود هذا النظام، الذى تبناه المشرع الدستورى، يعود إلى هذه الجماعة ولا يعود إلى أى حكومة؟!
ولا يعنى هذا أن الجماعة الصحفية والإعلامية تريد أن تستلب من السلطة التنفيذية حقها الدستورى فى اقتراح القوانين أو من المجلس النيابى حقه فى التشريع، ولكنها تتمسك بحقها فى صياغة مقترحاتها لهذه القوانين، بحكم أنها الأكثر خبرة ومعاناة من الأوضاع البائسة التى أرستها ترسانة القوانين المقيدة لحرية الرأى والتعبير والنشر والصحافة والإعلام، التى آن الأوان لكى يقوم على أنقاضها نظام إعلامى مصرى جديد، تصوغه التعديلات الدستورية لعام 2014. ومن البدهى أن اللجنة التى شكلتها لهذا الغرض سوف تعرض ما تنتهى إليه على الرأى العام وعلى هيئات الدولة ذات الصلة، وتسعى عبر الحوار - وكما فعلت فيما يتعلق بالمواد الدستورية التى اقترحتها - للتوصل إلى وفاق وطنى حوله بين كل الأطراف.
وحتى تكون المهمة واضحة للجميع، فإن مشروعات القوانين المكملة للدستور فيما يتعلق بحرية الصحافة والإعلام ينبغى - فى رأيى - أن تتضمن:
< اقتراحاً بمشروع قانون لإلغاء العقوبات السالبة للحرية فى جرائم النشر، يلغى كل العقوبات السالبة للحرية فى جرائم النشر من كل القوانين القائمة، وفى مقدمتها قانون العقوبات، بحيث يشمل إلغاء بعض المواد التى تتناقض مع الدستور، وإعادة صياغة بعضها الآخر، وتحديد الحد الأدنى والحد الأقصى للغرامة المالية التى تحل محل الحبس فى بقية المواد.. على أن يلغى هذا القانون كذلك عقوبة إلغاء أو وقف بث أجهزة الإعلام.
ومشروع هذا القانون سبق أن وضعت مسودة له، عام 2002، لجنة شكلتها نقابة الصحفيين، وترأسها المستشار «عوض المرّ»، الرئيس الأسبق للمحكمة الدستورية، وهو لا يحتاج إلا لمراجعة أخيرة قبل اعتماده.
< اقتراح بمشروع قانون يحل محل القانون رقم 96 لسنة 1996 بشأن تنظيم الصحافة، يحمل اسم «مشروع قانون تنظيم حرية الصحافة والإعلام»، يتضمن التعريف القانونى للصحف وأجهزة الإعلام المرئى والمسموع والإلكترونى، وينظم حق إصدار الصحف بالإخطار وحق إنشاء الفضائيات بالترخيص، ويضمن حقوق الصحفيين والإعلاميين ويحدد واجباتهم، بما فى ذلك حقوقهم فى حالة تقديمهم للمحاكمة، ويحدد الشروط الواجب توافرها فيمن يتملك صحفاً أو أجهزة إعلام مرئية أو مسموعة أو إلكترونية، ويضم فصلين أحدهما عن الصحف القومية المملوكة للدولة، يحدد شكل إدارتها وطريقة اختيار رؤساء مجالس إدارتها ورؤساء تحريرها. والآخر عن أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والإلكترونية التى تملكها الدولة.. ثم فصولاً تضم المواد التى تتعلق بتشكيل واختصاصات المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام وتشكيل اختصاصات الهيئة الوطنية للصحافة والهيئة الوطنية للإعلام.
وبالإضافة إلى هذين القانونين الأساسيين، فهناك حاجة إلى ثلاثة قوانين أخرى، حتى يكتمل النظام الإعلامى المصرى الجديد:
< مشروع قانون لتنظيم حرية الحصول على المعلومات طبقاً للمادة 68 من الدستور.
< مشروع قانون بإنشاء نقابة للإعلاميين تنظم الاشتغال بالمهنة، وتكفل إصدار ميثاق شرف إعلامى، تتولى النقابة محاسبة من يخالفه، وهو مشروع تم إعداده بالفعل وتلقاه مجلس الوزراء.
< مشروع قانون بتعديل قانون نقابة الصحفيين، يتواءم مع المستجدات التى شهدتها المهنة منذ صدوره قبل 45 سنة.
تلك مهمة يمكن إنجازها فى وقت معقول، لو سعت كل الأطراف للتوافق فيما بينها على تشكيل لجنة موحدة، تضم وزراء الحكومة الثلاثة، واللجنة التى شكلتها الجماعة الصحفية والإعلامية، وتضم 24 عضواً، نصفهم نقابة الصحفيين والمجلس الأعلى للصحافة، ونصفهم الآخر نقابة الإعلاميين تحت التأسيس، والمهنيون العاملون فى الإعلام الحكومى والخاص.. وهو ما آمل أن تنتهى إليه المشاورات التى لاتزال تجرى حتى لحظة إنهاء هذا المقال، حتى لا تتورط الحكومة فيما لا يجوز لها أن تتورط فيه، ويتورط الزملاء الأعزاء الذين تضمهم لجنة الثمانية فيما لا يليق بهم، فيشاركوا فى سلق مشروعات قوانين تحرير الصحافة والإعلام.. لمجرد أن أحد مستشارى الحكومة خدعها وأقنعها بأن تضع العربة أمام الحصان، وتجهز الشوالى قبل إدرار اللبن، وتصدر قانون إنشاء الأجهزة قبل قوانين تحرير الإعلام!