كابوس مبارك (عيد الجلوس -2)

جمال الجمل الأربعاء 15-10-2014 21:21

مسكين مبارك!.. موظف الميري الذي كان يحلم أن ينهي حياته بتكريم لائق بعد المعاش!

تخيلوا مأساة رجل، كانت أقصى أحلامه، أن يتم تعيينه سفيرا لمصر في لندن (بلد الإكسلانسات)، ففوجئ بأنه الرجل الأول الذي يتحكم في مصائر البلاد والعباد!

مسكين مبارك فعلا.. برغم وصوله إلى الرئاسة لم يتنازل عن حلم الحياة «كإكسلانس على المعاش»، ومن شدة إخلاصه للأمنية أحال مصر كلها إلى المعاش، ليس طبعا في بلد الإكسلانسات، ولكن في بلد العشوائيات، حيث تحول الشعب إجباريا إلى كهول، عاطلين، ضائعين، بلا ضمان مالي ولا اجتماعي ولا علاجي، بلا حقوق ولا كرامة ولا مستقبل.

مسكين مبارك جدا، لأن حلمه الصغير تحول إلى كابوس كبير له ولمصر كلها، فهم لم يكن مؤهلا لهذه المهمة، لكنها وصلت إليه في مصادفة عجيبة، ضمن ترتيبات السادات لتأمين حكمه من غضبة الجيش بعد أن عقد العزم على الإطاحة بالفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان حرب أكتوبر، وعدد من أبرز قادة الحرب، والراجح أن فكرة لندن، بدأت في رأس اللواء حسني مبارك عندما استدعاه السادات، ليحمله رسالة إلى قائده المقال الفريق الشاذلي.

كان الشاذلي قد علم من وزير الحربية أحمد اسماعيل خبر إقالته وتعيينه سفيرا في لندن عصر يوم 12 ديسمير 1973، ورفض التعيين، فسأله الوزير: هل يعني هذا أنك ترفض إطاعة أمر الرئيس.

رد الشاذلي: سيادة الوزير.. يمكنك أن تفسر الرفض كما تشاء. إذا كان الرئيس يعتبر أن هذا التعيين خدمة لي، فمن حقي أن اقبل الخدمة أو أرفضـها. وإذا كان المقصود بهذا التعيين هو العقاب فأنا أرفضه وأفضل أن يكون هناك تحقيق ومحاكمة حتى تظهر الحقائق.

الوزير: إن ما تقوله شيء خطير.. هل أقوم بإبلاغ الرئيس بما قلته؟

الشاذلي: طبعا.. الهاتف بجوارك ويمكنك أن تبلغه الآن وفوراً، إني أصـر على الرفض وأفضل أن يكون عزلا وليس نقلا إلى وزارة الخـارجيـة، وهذا اعتذار رسمي عن عدم قبول منصب السفير.

حرر الشاذلي الاعتذار كتـابة وسلمه للوزير، وانصرف إلى منزله، وفي المساء اتصل به اللواء حسني مبـارك، يطلب مقابلته الليلة لأمر مهم، فاعتذر الشاذلي وأرجأ الموعد للغد، ولما أصر مبارك على المقابلة، قال له الشاذلي: لا داعي، لأني لم أعد رئيس أركان حرب القوات المسلحة.

فقال مبارك: عرفت ذلك، وأريد أن أقابلك، لأني أحمل رسالة لك من السيد الرئيس.

كانت الرسالة تتضمن كلمات عن تقدير السادات للشاذلي وأنه لا يقيله استغناء، بل لأنه يحتاجه في مكان آخر لخدمة الوطن، وأن تعيينه سفيرا لا يعني تنزيلا من درجـته فسوف يستمـر بدرجة وزير وينال راتب وبدل تمثيل الوزير.

وتحدث مبارك من عنده محاولا إقناع الشاذلي فقال: «إن الرئيس ينوي إرسالك سفيرا إلى لندن، وهو أسمى منصب دبلوماسي يطمع فيه إنسان»

كان مبارك يتحدث بصدق وهو مقتنع تماما أن سفير مصر في لندن هو "أسمى منصب دبلوماسي يطمع فيه إنسان"، وظلت هذه الأمنية المبهرة كامنة في أعماقه حتى كشف عنها في حواره "التجميلي" الشهير مع عماد أديب.

الدرامي في الأمر أن النهايات المأساوية التي طالت معظم قادة أكتوبر، وصلت إلى مبارك في صورة مكافأة لم يكن ينتظرها ولا يستحقها، لكن مكافأة الرجل الأول كانت ابتلاء يجمع بين المنحة والمحنة في غلاف براق «يزغلل» العيون والنفوس، والدرامي أكثر أن مبارك وزع المحنة على مصر وناسها، وسعى للاحتفاظ بالمنحة ومزايا لنفسه ولعائلته، ولأفراد الشلة المحظوظة التي تحلقت حوله، وحول ولديه وزوجته، حتى توهمت الحاشية أنها قادرة على إلغاء النظام الجمهوري نفسه (وهو آخر ماتبقى من أطلال ثورة يوليو) وبدأوا في التمهيد لملكية توريثية فتحت صندوق اللعنات على الجميع.

للتاريخ أقول، إن مبارك لم يكن مقتنعا بسهولة فكرة التوريث، وكرجل عسكري كان يعرف صعوبة تمرير هذا السيناريو على المؤسسة العسكرية، لكنه تعامل بسيكلوجية المعاش، فلم يقدر خطورة المسؤولية التي يتحملها، ولم يفكر في العواقب، لكنه لم يجاهر يوما بموافقته على التوريث، استمر بطيئا، متثاقلا، ضعيفا، تشير الدلائل إلى تراخي قبضته، لصالح الوريث والهانم، وشلة المنتفعين.

من هنا تفاقمت مأساة الإكسلانس، حتى وصلت إلى «مباراة كأس» بين النظام وبين الشعب (أيهما يدفع المشاريب كاملة؟) ورغم أن 25 يناير نجحت في القضاء على بقاء مبارك في القصر ونقلت إقامة شلة الحكم إلى السجن، إلا أن أن نتيجة المباراة لم تكن حاسمة، فقد انتبه النظام، وقام بتغيير اللاعبين المخالفين بلاعبين آخرين، وامتص النظام حماس الفريق الثائر، وتجاوز حمى البداية بأقل الخسائر، ونجحت هجماته المضادة في تعديل النتيجة.

أصبح فريق الثورة في حالة انكماش، ومبارك (رغم طرده بالبطاقة الحمراء، ومنعه من اللعب) عاد يبتسم وهو يتابع أداء فريقه من خلف الأسوار، لكن المباراة لاتزال في الملعب، والنتيجة على قدر الأمل.

tamahi@hotmail.com