أيهما تفضل.. ولاية الفقيه أم غير الفقيه؟

الأحد 14-06-2009 00:00

هل تحولت مصر إلى جثة سياسية هامدة وأصبحت احتمالات التغيير فيها مرهونة بشىء واحد فقط هو القضاء والقدر؟.. سؤال يقفز إلى ذهنى فى كل مرة تفرض التطورات من حولنا متابعة ما يجرى من أحداث تتعلق بالحراك السياسى فى الدول المجاورة أو القريبة، وعندما تستبد بى دهشة، تصل أحيانا إلى حد الذهول، من حيوية ما يجرى عندهم، مقارنة بالجمود الحادث عندنا، تتضاءل أحلامى كثيرا ويصبح أقصى طموحى أن تتمكن مصر، يوما ما، من اللحاق بهم.

منذ حوالى عامين، وتحديداً فى الأول من أبريل عام 2007، نشرت لى صحيفة «المصرى اليوم» مقالا بعنوان: «متى تستطيع مصر اللحاق بموريتانيا؟» أشدت فيه بالإنجاز الذى حققه هذا البلد العربى على طريق التحول الديمقراطى خلال الفترة الانتقالية القصيرة التى أعقبت انقلاب 2005 وقيام الجنرال أعلى محمد فال بتنفيذ كل الوعود التى كان قد قطعها على نفسه وتسليم السلطة إلى حكومة منتخبة..

 ولأن ما يجرى فى مصر وقتها كان يسير فى اتجاه معاكس تماما، حيث كان النظام الحاكم قد قام بفرض تعديلات دستورية لم يكن لها هدف حقيقى سوى التمهيد لعملية نقل السلطة من الأب إلى الابن، مستغلا فى ذلك أغلبيته الميكانيكية فى مجلس الشعب، فقد بدت الهوة الديمقراطية بين مصر وموريتانيا كبيرة إلى الدرجة التى تمنيت فيها أن تتمكن مصر، يوما ما، من اللحاق بموريتانيا على هذا طريق!..

 وأظن أننى كنت على حق فى هذا، لأن التعديلات التى شهدتها الحياة السياسية خلال المرحلة الانتقالية التى قادها «فال» أضفت على المجتمع المدنى الموريتانى حيوية مكنته من الصمود فى وجه الانقلاب غير الديمقراطى الذى قام به الجنرال محمد عبدالعزيز إلى أن تمكن فى النهاية من إجهاضه، وفرض على الجميع العودة مرة أخرى إلى صناديق الاقتراع والاحتكام إليها وحدها!

والواقع أننا إذا أمعنّا النظر حولنا، فسوف نجد أن رياح التحول الديمقراطى فى المنطقة لم تقتصر على موريتانيا وحدها، فخلال الأسبوع الماضى تابع العالم كله انتخابات على درجة كبيرة من الأهمية والحساسية جرت فى لبنان وإيران، ورغم أن النظام السياسى فى كلا البلدين يعد غير ديمقراطى فى جوهره، بسبب الطبيعة الطائفية لأحدهما والدينية للآخر، فإن الانتخابات التى شهداها كانت حرة ونزيهة، وأكدت حقيقة مهمة جدا وهى أن درجة الديمقراطية النسبية التى يتمتعان بها أكبر بما لا يقارن بمثيلتها فى مصر.. ولأن الانتخابات التشريعية اللبنانية ودلالاتها كانا لهما سياقهما الخاص، وتستحقان معالجة مستقلة، فسأقصر حديثى اليوم على مقارنة ما جرى فى انتخابات الرئاسة الإيرانية بما يجرى فى مصر وانعكاساته المستقبلية.

يحلو للكثيرين، خصوصا من كتاب السلطة فى مصر، التركيز على الطبيعة غير الديمقراطية للنظام الإيرانى بسبب طبيعته الدينية، والتى تستند إلى «ولاية الفقيه»، ولا شك أن لهم بعض العذر فى ذلك، لكنهم ينسون أو يتناسون أن لنظام ولاية الفقيه شرعيته المستمدة من الثورة الإسلامية والتى يستحيل على أى منصف أن يشكك فى شعبيتها أو فى عظمتها، أيا كان اختلافه مع توجهاتها الفكرية، كما ينسون أو يتناسون أن النظام، الذى أطاحت به، كان مستبدا ويتمتع فيه رئيس الدولة بسلطة شاملة ومطلقة لم يكن ينازعه فيها أحد..

 ومن المثير للتأمل هنا، وربما للإعجاب أيضا، أن الثورة الإيرانية نجحت فى ابتداع نظام تعددى حقيقى فى إطار نظام ولاية الفقيه الشيعى والذى لا يتعين قياسه أو مقارنته بالنظم الغربية، فمرشد الثورة «الإمام»، والذى يتمتع بصلاحيات كبيرة، ينتخبه مجلس خبراء من الفقهاء ورجال الدين، ويعمل فى نظام به مجموعة كبيرة من المؤسسات القوية وليس الشكلية، فهناك رئيس جمهورية، وبرلمان، ومجلس صيانة الدستور، ومجمع تشخيص مصلحة النظام، وهى هيئات يتم شغل مقاعد العديد منها بالاقتراع المباشر.

معنى ذلك أنه تم تطبيق نظرية «ولاية الفقيه» ذات الطابع الدينى فى إطار نظام سياسى تعددى، مستلهم من النموذج الغربى، يتيح تجديد دماء النظام من داخله، مما يسمح له بالتطور وبالتكيف مع الاحتياجات المتجددة.

 وهناك دلائل موضوعية كثيرة على ما نقول، نذكر منها أن هناك ستة رؤساء تناوبوا على رئاسة الجمهورية الإيرانية منذ عام 1980 حتى الآن، منهم أربعة مازالوا على قيد الحياة، وأن هناك تيارين كبيرين يتداولان السلطة، مما يذكرنا بالنظام الأمريكى الذى تنحصر المنافسة فيه بين الحزبين الجمهورى والديمقراطى، إضافة إلى مستقلين يشكلون فى الواقع تياراً ثالثاً.. ويبدو التباين القائم بين هذه التيارات كبيرا وحقيقيا، وربما أكثر وضوحا فى أحيان كثيرة من التباين القائم بين الحزبين الأمريكيين الكبيرين، كما تبدو المنافسة بينهما حقيقية وشرسة وتحسم من خلال انتخابات حرة ونزيهة.

 وفى ظل حيوية كهذه، ليس غريبا أن تتجلى أمامنا، ليس فقط صورة لمجتمع ديناميكى، ولكن أيضا صورة لنظام مؤسسى لديه مشروع قادر على أن يفرض وجوده على الأرض وأن يحقق تقدما، ومن شأن أى مقارنة بسيطة بين ما جرى ويجرى فى إيران وما جرى ويجرى فى مصر تظهر بوضوح تام أسباب وصول النظام المصرى إلى الحالة التى هو عليها الآن.

فالرئيس مبارك، والذى أوصلته إلى السلطة مصادفة تاريخ وليس شرعية ثورة، حكم مصر وحده طوال فترة تعاقب خلالها على رئاسة الدولة فى إيران ستة رؤساء، ولم تكن صناديق الاقتراع هى الفيصل فى اختيار الرئيس، والذى طوال السنوات الـ25 الأولى من حكمه «يرشح» من مجلس شعب هو نفسه يأتى عبر انتخابات مزورة.

ولم ينافسه فى الانتخابات الرئاسية الوحيدة التى جرت بالاقتراع السرى المباشر عام 2005 سوى الدكتورين أيمن نور ونعمان جمعة.. فهل لنا أن نقارن ذلك بانتخابات رئاسة الجمهورية الإيرانية والتى يمكن فيها لشخص مغمور اسمه أحمدى نجاد ليس فقط أن يرشح نفسه وإنما أن يفوز فيها أيضا على واحد من أعمدة النظام ورئيس جمهورية سابق اسمه هاشمى رفسنجانى؟!

أما من حيث السلطات والصلاحيات، فلا جدال أن الرئيس مبارك يتمتع بسلطات وصلاحيات أوسع بكثير من تلك التى يتمتع بها مرشد الثورة ورئيس الجمهورية معا!.. صحيح أن مرشد الثورة الإيرانية يتمتع بصلاحيات دينية لا يتمتع بها الرئيس مبارك، لكن الأخير هو الذى يعين شيخ الأزهر ومفتى الجمهورية وبوسعه أن يحصل على أى فتوى دينية تدعم موقفه السياسى فى أى قضية، كما أن بوسعه من الناحية العملية أن يتخذ قرارات أو إجراءات يستحيل على مرشد الثورة أو رئيس الجمهورية أن يتخذها، ما لم يقم بانقلاب داخل النظام، فهناك توازن دقيق بين المؤسسات لا يسمح لأى شخص فى الواقع بالانفراد بالسلطة فيه.

فإذا نظرنا إلى قدرة النظام السياسى المصرى على تجديد نفسه من داخله، فسوف نجد أن هذه القدرة تكاد تكون معدومة، بالمقارنة مع إمكانات النظام الإيرانى، فالحزب الوطنى يستمد إرادته بالكامل من شخص الرئيس وسلطته وليس من أى شىء آخر، ولذلك بوسع الرئيس أن يعمل به وفيه ما يشاء.. صحيح أن أجنحة وتيارات قد تظهر فى هذه المرحلة أو تلك، لكنها أجنحة وتيارات «شللية» وليست فكرية أو أيديولوجية، وقد يكون لها بعض التأثير، ولكن فى حال غياب الرئيس وليس فى أى ظرف آخر..

 فلا يستطيع أى جناح أو مجموعة اتخاذ قرار ضد رغبة الرئيس، لكن الأهم من ذلك أن الرئيس مبارك، والذى تجاوز الثمانين من عمره، يصر على الاستمرار فى السلطة حتى آخر «نبضة فى عروقه»، ويؤكد البعض أنه سيرشح نفسه لفترة ولاية سابعة عام 2011 تنتهى فى عام 2017، أى عندما يكون الرئيس على مشارف التسعين. فأى نظام سياسى تفضل: ولاية الفقيه على النمط الإيرانى أم ولاية غير الفقيه على النمط المصرى؟!

هل يمكن للإنسان، فى ظل أوضاع كهذه، أن يشعر بالدهشة حين تتراءى له مصر هذه الأيام وكأنها جسد مسجى فى تابوت يتحلق حوله مجموعة من الكهنة يبتسمون فى بلاهة بعد أن فرغوا من أداء مهمة تحنيط فرعونية يبدو أنهم لا يجيدون سواها؟!