«لكن كيف تجرى انتخابات فى غابة من السلاح، ولا مؤسسات ولا قضاء، وبغياب توافق وطنى كاف على أولويات بناء الدولة؟ بعبارة أخرى: الانتخابات جعلت الصراع على السلطة يسبق بكثير عملية بناء الدولة. كان لا بد من مباشرة بناء الدولة قبل الاستعجال فى الصراع على السلطة». هذا هو كلام «طارق مترى»، المبعوث الخاص السابق للأمم المتحدة فى ليبيا، فى حواره مع جريدة الحياة عدد 8 أكتوبر. هذه الكلمات القليلة تلخص قصة ليبيا منذ نهاية حقبة القذافى فى عام 2011.
مصر ليست بعيدة عن الأزمة الليبية. يتطلب الاقتراب من هذه الأزمة المتحركة استراتيجية جريئة وبعيدة النظر. نقطة الانطلاق هى الإجابة عن سؤالين جوهريين: ما الذى يجرى هناك؟ وكيف نتصرف حياله؟
فى ليبيا اليوم حكومتان، كلٌ منهما تدَّعى الشرعية. هناك حكومة فى طبرق برئاسة «عبدالله الثنى». إنها الحكومة التى تعبر عن الأغلبية التى فازت بآخر انتخابات جرت فى يونيو الماضى. هذه الأغلبية تضم تحالفاً من القوى المناوئة للإسلاميين. هناك حكومة أخرى فى طرابلس تُمثل القوى الإسلامية التى لم تقبل بنتيجة الانتخابات، وقررت استمرار عمل المؤتمر الوطنى العام (البرلمان السابق الذى انتُخب فى 2012).
حكومة طبرق لديها الشرعية الانتخابية، ولكنها لا تسيطر على معظم الأراضى الليبية. حكومة طرابلس تباشر سيطرة فعلية على العاصمة ومدينة بنى غازى (باستثناء المطار)، بعد أن خاضت ميليشياتها حرباً طوال الصيف الماضى لفرض الأمر الواقع وإلغاء التفويض الانتخابى.
دعنا نبسط الصورة: هناك فريق إسلامى (بأطيافه المختلفة من الإخوان المسلمين إلى أنصار الشريعة). هذا الفريق لديه قبائل وميليشيات متحالفة معه، أهمها ميليشيا مدينة «مصراتة» فى غرب ليبيا. هناك فريق آخر لا يقبل بسيطرة الإسلاميين، وله أيضاً ميليشيات أهمها فى مدينة الزنتان، فضلاً عن قوات اللواء خليفة حفتر الذى أطلق عملية الكرامة فى مايو الماضى لمقاومة سيطرة التيارات المتطرفة على مدينة بنى غازى.
هى حرب ميليشيات إذن. بعض الميليشيات متحالف مع الإسلاميين، وبعضها متحالف مع مناوئيهم. خلاصة الوضع: الإسلاميون- الذين تدعمهم قطر وتركيا- يسيطرون على أغلب الأراضى الليبية، وكذلك مقدرات الدولة فى المدن الرئيسية. الفريق الآخر المناوئ يرفض القبول بهذه السيطرة، ولكن ليس لديه سوى شرعية انتخابية محاصرة فى طبرق (تبعد عن الحدود المصرية بنحو 150 كم)، وقوات أثبتت عدم فاعليتها فى القتال.
ما الذى يهم مصر فى كل هذا؟
ليبيا ستعيش فوضى الميليشيات لفترة طويلة. لا حل دائماً للأزمة الليبية سوى ببناء مؤسسات الدولة، وعلى رأسها الأمن والجيش. هذا الحل سيأخذ وقتاً طويلاً، خاصة أن البداية ستكون من الصفر.
المعضلة التى تواجهها مصر اليوم هى كيفية تحجيم المخاطر الناشئة عن اشتراكنا فى حدود تتجاوز ألف كيلومتر مع دولة تحكمها الميليشيات. لنكن واضحين: هندسة الوضع فى ليبيا ليست من شأننا، وتتجاوز إمكانياتنا. ما يعنينا حقاً هو كيفية تأمين الحدود وضمان وجود طرف متعاون- أو على الأقل غير مناوئ- على الجانب الآخر.
مصر اعترفت بحكومة طبرق. الرئيس السيسى استقبل رئيسها فى القاهرة الأسبوع الماضى فى إشارة قوية للدعم والمساندة. هذا تحركٌ جيد. لابد من العمل بشكل وثيق مع الليبيين الرافضين لسيطرة أنصار الشريعة والميليشيات المتطرفة على بنى غازى ودرنة فى شرق البلاد. يُشير الكثير من العارفين بالشأن الليبى إلى أن هؤلاء الرافضين- على ضعفهم البادى- يمثلون الأغلبية. هم فى حاجة للتنظيم والمشورة والتدريب العسكرى. ينبغى أن تذهب الوفود العسكرية المصرية لزيارة طبرق علناً لهذا الغرض. يُمكن أيضاً حشد دعم بعض الدول الراغبة فى تدريب الجيش الليبى مثل إيطاليا (التى يُزعجها تصاعد الهجرة غير الشرعية إلى أراضيها).
من السابق لأوانه الحديث عن عمليات «جراحية» داخل الأراضى الليبية. مهمٌ أن يكون العنوان العريض لهذه العمليات- إن حدثت- هو تأمين الحدود. لا يمكن أن تتم هذه العمليات من دون تأييد ومُباركة- بل واستدعاء- من قطاع واسع من القوى المؤثرة فى شرق ليبيا. ينبغى التمهيد سياسياً- من الآن- لمثل هذا السيناريو الاضطرارى.
لا تخلو هذه الاستراتيجية من مخاطر ينبغى التحسب لها. العمالة المصرية فى ليبيا تفرض قيوداً على التحرك المصرى. رد فعل الجماعات الجهادية ينبغى أن يؤخذ فى الحسبان، علماً بأن هذه الجماعات ستعمل ضد مصر فى أى الأحوال، خاصة أنها مرتبطة بشبكات الإجرام والتهريب عبر صحرائنا الغربية.
إن دعم قوى ليبية يُمكن الاعتماد عليها فى شرق ليبيا يُمثّل الاستراتيجية الوحيدة المعقولة لإدارة الوضع المتفجر هناك.