بلغ الجمع ستين شخصا، جاء نصفهم من مصر كلهم من الإعلاميين أو من لهم صلة بالإعلام دراسة أو ممارسة؛ أما النصف الآخر فكان من خبراء الإعلام فى الولايات المتحدة مع باقة من أصحاب الخبرة الإعلامية فى دول ممتدة من إندونيسيا إلى البرازيل تخوض المرحلة الانتقالية التى تخوضها مصر بين أزمنة وعصور. المنظمون كانوا مبادرة الحوار المصرى الأمريكى، ومدرسة جامعة جورج واشنطن للإعلام والشؤون العامة، ومنظمة جالوب لاستطلاعات الرأى العام الشهيرة. ولا أدرى عما إذا كان فى الأمر صدفة، فقد انعقدت ورشة العمل عن الإعلام المصرى فى الدور الثامن من مدرسة الإعلام التى تطل شرفتها على النصب التذكارى لمؤسس الدولة الأمريكية جورج واشنطن وهو على شكل مسلة مصرية باسقة تربط الأرض بالسماء، أو هكذا تصورها الفراعنة الأوائل. ما جرى فى الاجتماعات التى تواصلت على مدى ثلاثة أيام كان خاضعا للقاعدة المعروفة فى الحوارات والمناقشات الشهيرة باسم «شاتام هاوس» وهى قاعدة إنجليزية قوامها أن يتم النقل عن الاجتماع شريطة ألا ينسب قول لصاحبه وإنما يورد حسبما ورد باعتباره ما دار ما بين أطراف متعددة. والقصد أن يكون ما يجرى تداوله صريحا، فلا ينعقد لسان ولا يقيد طرف، وإنما تكون البطولة للأفكار التى تتقارع حتى يصل الناس إلى الحقيقة، ومن يعرف ربما تصل بهم الحكمة إلى أصل داء أو كيفية انطلاق إلى آفاق لم يعرفها أحد من قبل. وعندما يكون الموضوع عن الإعلام المصرى، ويكون الأغلبية الساحقة من الحاضرين ممارسين للإعلام المكتوب والمسموع والمرئى والإلكترونى ومن أجيال متعددة وبلدان مختلفة فإن قاعدة «شاتام هاوس» تصير ذات فائدة أكبر مما جرى تصوره فى البداية. فلم يكن الموضوع مقرونا بالأفكار فقط، وإنما أيضا بالمعرفة التى جاءت من مصادر متعددة: الخبراء الذين جاءوا من بلدان خاضت معركة التحول من نظام سياسى مستبد إلى نظام سياسى ديمقراطى؛ ومؤسسة جالوب التى عرضت عرضا مثيرا عن الحالة المصرية كما كشفت عنها استطلاعات الرأى العام والتى اقتربت منها وأكدت عليها مؤسسة «بصيرة» المصرية لاستطلاعات الرأى العام التى أصبح لها مصداقية داخل مصر وخارجها؛ والأساتذة والممارسون الذين أتوا من جامعات لا تقل فى أهميتها عن جامعة جورج واشنطن، وخبراء ممارسون فى صحف فى أهمية النيويورك تايمز، وCNN التليفزيونية.
كانت الفرصة عظيمة لمقابلة كل زملاء المهنة الذين عرفتهم على مدى أربعين عاما من الممارسة فى الجامعات والصحافة والتليفزيون، وكانت الفرصة أعظم عندما شاهدت جيلا مصريا جديدا واعدا ومبشرا. وكما هى العادة فى مثل هذه القضايا فإن البداية تكون متشائمة، فحالة الإعلام المصرى فى أزمة كبرى، وعليه من الضغوط ما يجعله مقبلا على كارثة أو أنه يعيشها بالفعل. ولكن الجلسات تمضى وتبدأ طاقات النور فى الظهور وسط الظلمات، فالإعلام المصرى رغم كل شىء يتمدد ويتكاثر فى كل الاتجاهات، وما جاء فى الدستور المصرى ٢٠١٤ عن حقوق التعبير والحريات الصحفية يضع مرجعية لتطوير المهنة وانطلاقها، ورغم كل التشكيك فى المصداقية فإن واحدا من نتائج استطلاعات «جالوب» قالت إن ٧٩٪ من المصريين يعتقدون أن الإعلام المصرى حر. النتيجة فى النهاية كانت أن ما تم الاعتقاد به فى البداية وكأنه أزمة كبرى، تقلص فى النهاية إلى نوع من التوتر ما بين الإعلام والسلطة، الذى هو أحيانا من طبائع الأشياء والمهن القائمة على الصراحة والبوح والأخرى القائمة على أن لكل أمر مسؤولية، ولكل علاقة قيوداً، ولكل آفاق فى النهاية حدوداً.
خمس نتائج يمكن قراءتها من حضور الاجتماعات وأحاديث القهوة ووجبات الغداء والعشاء، كلها تشير إلى الارتباط العضوى بين الإعلام والدولة المصرية فإذا خرجت الأخيرة من أزمات المرحلة الانتقالية فإن الأولى تخرج بالضرورة؛ ولكن كلاهما عليه أدوار مختلفة حتى يخرج المصريون من نفق المرحلة الثورية إلى ضياء وأنوار، ومن يعلم أفراح الدولة المستقرة ذات التنمية المستدامة والمكانة الدولية المحترمة. وأولى النتائج هى أن مهمة الإعلام فى هذه المرحلة أن يعمل على التخلص من حالة السخونة الجارية فى المجتمع المصرى والتى تولدت بعد عهد الثورات والتى أفقدت الكثيرين رشداً يعجز عن التفكير أو أن يكون التفكير فيه عاجزا مضطربا وحائرا ومندفعا. وببساطة، فإن الإعلام يحتاج بشدة إلى الخروج من حالة «التحريض» و«التعبئة» إلى الحالة «المهنية» التى تقوم على المعلومات والمعرفة. كما يحتاج التخلص من حالة عبادة الفرد إلى الولوج إلى ساحة المحاسبة والتقييم، ووزن الأمور وإيرادها فى المكان الصحيح. وسواء كان الموضوع هذا أو ذاك، فإن الجوهر خلق المسافة ما بين «السياسة» و«الإعلام» فرغم الروابط بينهما، فإنهما مجالان منفصلان، لكل منهما ساحته وميزانه.
وثانية النتائج كان أن للإعلام دورا مهماً فى الحفاظ على الدولة فى مواجهة المعركة الكبرى مع من يحاولون تقويض أسسها بالإرهاب والعنف والخروج على القانون. المعركة هنا لا تقتصر على مصر، بل إنها معركة ممتدة بامتداد الإقليم الذى نعيش فيه. ومن المدهش أن الإعلام المصرى صار إعلاما محليا فى الوقت الذى امتد فيه التهديد لكى يشمل ساحة ممتدة من المغرب غربا وحتى باكستان شرقا، عابرا دولاً وأقاليم، وشاملاً لتنظيمات ذات أسماء متعددة وكلها تعلن عن نفسها من خلال الذبح للأفراد والبربرية من الجماعات والمجتمعات والدول. العبء هنا ثقيل، ولكن الأيام الصعبة تكون مهامها ثقيلة، وما لم تكن مصر قاعدة للوعى والمعرفة بالدين الصحيح فإنه لا توجد دولة أخرى يمكنها القيام بهذه المهمة.
وثالثة النتائج أن مصر كلها تمر بمرحلة إعادة بناء المؤسسات، فكان الدستور الجديد، كما تمت الانتخابات الرئاسية، وبقيت الانتخابات التشريعية. هنا فإن الإعلام على عاتقه مهمتان: الأولى أن يفعل ما تفعله كل مؤسسات الدولة الأخرى، وهى أن تحول مواد الدستور إلى قوانين، فلا قيمة فى الحقيقة لمواد تعطى الحرية دون تحويلها إلى قوانين تطبق من خلال السلطة القضائية؛ كما أن المؤسسات التى وردت فى الدستور مثل مجلس الإعلام القومى، ومنظمة الصحافة القومية، ومنظمة الإعلام القومى؛ كل منها يحتاج إلى إطار وتقنين تقوده الصحافة والإعلام ونقابة الصحفيين. والثانية أنه ربما آن الأوان لوضع «الصحافة القومية» على الطريق الصحيح للازدهار والنمو بدلاً من الإفلاس والنزيف المستديم لميزانية الدولة بتحولها إلى مؤسسات عامة لا تملكها وتتحمل مسؤوليتها الحكومة، وإنما تطرح للشعب المصرى لكى يتملكها ويراقبها ويحدد اتجاهاتها عندما يشترى أسهمها دونما احتكار لفرد أو جماعة.
ورابعة النتائج أن الإعلام جزء من التطور الديمقراطى فى البلاد، وبقدر ما تنجح الصحافة والمحطات التليفزيونية وأشكال التعبير الإلكترونى فى تجنب العنف اللفظى والإرهاب الفكرى، فإن مسيرة الديمقراطية فى مصر سوف تصل إلى نتيجتها المنطقية. هنا فإن متابعة المجتمع الأهلى، والحكم المحلى، والمؤسسات السياسية من البرلمان إلى رئاسة الجمهورية إلى السلطة القضائية؛ كلها تبنى الوعى وتنمى المشاركة، وتخلق القيم التى لا غنى عنها فى مجتمع ديمقراطى فعال بالعمل والإنتاج.
وخامسة النتائج أن الحلم الذى كان موضوعا لمقال الأسبوع الماضى بات موضوعا الآن على مائدة الأعمال القومية ليس باعتباره حلما وإنما جدولا للأعمال التى تحتاج ليس تغطية فقط بالمعلومات والمعرفة، وإنما الغوص فيما هو ممكن، وما هو الآن، وما هو ضرورى، وما هو مؤهل، وما هو غائب. هناك جهد لابد منه لمعرفة آثار الموضوعات القومية على البشر والحجر والبيئة، فما نحن بصدده ليس بناء مصنع أو إضافة مدرسة أو إنشاء مستشفى أو استصلاح مساحة زادت أو قلت من الأراضى؛ وإنما نحن بصدد مشروع كبير للنهوض القومى تتغير فيه جغرافية مصر وتاريخها. هل يمكن أن يحدث ذلك دون علم وتعليم وفنون وآداب وتغيير فى قيم الناس ومدى استجابتهم فى قولهم وسلوكياتهم؟ وهكذا من الناحية الإعلامية البحتة هناك وليمة ضخمة لأن المشروع لا يجرى فى ساحة خالية من البشر؛ ومن ناحية المسؤولية الوطنية والمهنية فإن الفشل أو المضى على الطرق التى اعتدناها سوف يكون إخفاقا كبيرا يدين جيلا كاملا من الإعلاميين. هكذا دار الكلام فى العاصمة الأمريكية واشنطن!.