أتمنى أن يكون الخبر الذى نشرته الصحف فى الأسبوع الماضى، حول بدء إجراءات تحويل المنزل الذى ولد فيه الزعيم الراحل جمال عبدالناصر بحى باكوس بالإسكندرية إلى مكتبة عامة، تضم الكتب التى تتناول دوره فى تاريخ مصر، وبعض مقتنياته - خبراً صحيحاً، بعد أن تحول البيت - كما تقول التقارير الصحفية - خلال السنوات الثلاث الأخيرة، إلى مقلب للقمامة، ومأوى للمدمنين وأطفال الشوارع، وأحلم بأن يكون إنشاء مكتبة «جمال عبدالناصر» هو الخطوة الأولى ضمن سلسلة خطوات لتنفيذ الخطط التى وُضعت فى أعقاب رحيله عام 1970، تخليداً لذكراه، وظل معظمها على امتداد 45 عاماً، مجرد وعود لا تنفذ، بحيث لا يحل العيد المئوى لميلاده - فى 15 يناير 2018 - الذى لا يفصلنا عنه سوى حوالى ثلاث سنوات، إلا وتكون قد وضعت موضع التنفيذ، خاصة أن هناك بالفعل خطوات كانت قد اتخذت لهذا الغرض.. ثم توقفت لأسباب متعددة، بعضها يمكن فهمه، مثل نقص الميزانيات والتضارب فى الاختصاصات بين الهيئات الحكومية، وبعضها يمكن استنتاجه من السياق العام للأحداث، وكلها لا تنفى حقيقة أن ما تبقى من خطوات لتنفيذ مشروعات تخليد ذكرى عبدالناصر، لا يتطلب إنفاقاً كبيراً أو وقتاً طويلاً بل يتطلب إرادة سياسية.
وفى ظل موجة الحزن التى أعقبت رحيل عبدالناصر تتالت الاقتراحات والقرارات والقوانين لتخليد ذكراه، كان من بينها قرار بوضع قوائم أمام المنشآت الكثيرة التى أقيمت فى عهده، يحمل كل منها لافتة تشير إلى هذه الحقيقة، وشرع على الفور فى تنفيذ القرار، وبعد ثمانية أشهر، وفى أعقاب انفراد الرئيس السادات بالسلطة، وانتصاره على شركائه من ورثة عبدالناصر توقف إقامة المزيد منها، ثم بدأت تختفى تدريجياً، واستردت بعض المنشآت التى تغير اسمها لتحمل اسم جمال عبدالناصر بعد وفاته أسماءها القديمة، فعادت بحيرة ناصر لتسمى بحيرة السد العالى، واستردت قاعة جمال عبدالناصر بجامعة القاهرة اسمها القديم وهى قاعة الاحتفالات الكبرى، وألغى المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية قراره بتسمية موسوعة الفقه الإسلامى باسم موسوعة جمال عبدالناصر لتعود إلى اسمها القديم.
وأعادت الصحف ووسائل الإعلام كتابة تاريخ ثورة 23 يوليو، لتختصرها فى البلاغ رقم واحد، الذى ألقاه السادات بصوته صباح ذلك اليوم، لمرة واحدة، ثم تكررت إذاعته فى اليوم نفسه عشرات المرات بصوت المذيع جلال معوض بسبب رداءة التسجيل الأصلى، وقرر السادات - بعد أن أصبح رئيساً - أن يعيد تسجيله بصوته، ليؤكد حقيقة أنه صانع الثورة وقائدها الحقيقى وليس جمال عبدالناصر.
ولم يكن فى ذلك كله شىء غريب على ظواهر التاريخ بشكل عام، وعلى التاريخ المصرى بشكل خاص، الذى تحفل آثاره بمحاولة كل فرعون إزالة إنجازات سلفه أو إضافتها لإنجازاته، ففى أعقاب تنازل الملك فاروق عن العرش، أسرع كثيرون يتخلصون من محاولاتهم التقرب إليه أو نفاقه، كان من بينهم صاحب شركة كانت تنتج نوعاً رائجاً من الصابون باسم نابلسى فاروق، قام بحملة دعائية واسعة، ليعلن أنه بمناسبة زوال العهد البائد وبزوغ فجر الحرية، قرر تغيير الاسم إلى نابلسى نجيب، وكان ذلك ما فعله أيضاً مؤلف لواحد من أشهر سلاسل الكتب الخارجية التى كان يستعين بها طلاب المدارس الابتدائية والثانوية فى دراسة مادة اللغة الإنجليزية، وكان يطلق عليها اسم «Farouk Companion» فأسرع يغير الاسم إلى «نجيب كومبانيون» من باب الكوسة الثورية، وبعد ما يقرب من عامين، شاطت الكوسة للمرة الثانية، إذ انتهى الخلاف داخل مجلس قيادة الثورة بعزل اللواء نجيب عن منصبه، فلم يجد صاحب الصابون مفراً من إطلاق اسمه على صابونه الذى أصبح يسمى «نابلسى شاهين»، بينما غير صاحب سلسلة الكتب اسمها إلى اسم لا صلة له بالسياسة وتقلباتها.
كانت تقلبات السياسة وتعقد المشاعر التى حملها السادات لذكرى عبدالناصر، واختلط فيها الحب بالكراهية، لأنه ظل طوال عهده فى الظل بعيداً عن المراكز المؤثرة فى السلطة - وراء حرصه على إهمال كل مشروعات تخليد ذكرى عبدالناصر.. ومع أن الأمور اختلفت فى عهد مبارك، الذى حرص على الإشادة بذكرى الرجلين، إلا أنه لم يتحمس بالقدر الكافى لأى مشروع يتعلق بتخليد ذكراهما، فيما عدا بعض الإجراءات البروتوكولية والهامشية، مثل زيارة قبريهما فى ذكرى وفاتهما، وإطلاق اسميهما على محطتين للمترو، والاحتفاظ باسم السادات على ما أنشئ فى عهده من مؤسسات ومشروعات ومدن.
ولأن المناخ السياسى الحالى، بعد ثورتى يناير ويونيو، هو فى تقديرى أكثر ملاءمة، من أى وقت مضى للاهتمام بواجب تخليد ذكرى عبدالناصر، وإتمام المشروعات المعطلة التى كان قد بُدئ فى تنفيذ بعضها، خلال السنوات العشر الأخيرة من عهد الرئيس مبارك، بعد أن تحول عبدالناصر إلى جزء عزيز وغال من تاريخ الوطن، وهبطت مشاعر الثأر التى ناوشت بعض الذين اتخذوا مواقف معادية من ذكراه، لأنه بما اتخذ من إجراءات ثورية، قد أضر بمصالحهم، ولم يبق منه إلا الدور الإيجابى البارز الذى لعبه فى تاريخ وطنه وأمته وتاريخ الإنسانية، وهى قيم تستحق التخليد، لأنها بعض الزاد الذى ينبغى أن نحتفظ به للأجيال القادمة، وأن نفخر به، فوق أى خلاف فى التفاصيل.
وربما لهذا السبب تفاءلت بخبر تحويل المنزل الذى ولد فيه إلى مكتبة متخصصة عنه وهو مشروع قديم يعود إلى عام 2005 ثم تعثر بسبب خلافات بين محافظة الإسكندرية ووزارة الثقافة حول ملكيته، فضلاً عن أنه لا يصلح لإقامة متحف يليق باسم «عبدالناصر» بسبب ضيق مساحته، وازدحام المنطقة التى يقع فيها على نحو لا يتيح الفرصة لإقامة حرم له يسمح بتردد الزائرين عليه، إلا إذا أعيد صياغة جانب من المنطقة بما يجعلها صالحة لكى تكون مزاراً سياحياً.. وقد يكون الحل الذى تم التوصل إليه وهو تحويله إلى مكتبة هو أفضل الحلول الممكنة.
لكن هناك مشروعات أخرى أهم كان قد بدئ فيها بالفعل، من بينها تحويل مبنى مجلس قيادة الثورة بالجزيرة إلى متحف لثورة يوليو، وهو مشروع كان قد بُدئ فى تنفيذه بالفعل ثم توقف لأسباب تتعلق بخلافات مع الشركة التى تنفذه، ولنقص الميزانية المخصصة لإنهائه، ومشروع آخر لتحويل بيت منشية البكرى الذى سكن فيه عبدالناصر طوال عهد الثورة، وكان يدير منه شؤون البلاد، ومات فيه، والذى فهمت مما نشرته بعض الصحف أن العمل قد بدأ فيه بالفعل.. وفى كل هذه الحالات فإن مقتنيات عبدالناصر وأوراقه الخاصة، وخطبه وأحاديثه المسموعة والمرئية، جاهزة للانتقال إلى أحد هذين المتحفين فى حالة توفر إرادة سياسية لإقامتهما.
ومنذ سنوات، وفى سياق حديث دار بينى وبين وزير الثقافة الأسبق الفنان «فاروق حسنى» حول تخليد ذكرى عبدالناصر، ذكر لى أن هناك ثلاثة تماثيل ضخمة، صنعها مثّال كورى لكل من «عبدالناصر» و«السادات» و«مبارك» وأهديت إلى مصر، وكان من رأيه - كفنان تشكيلى - أنها أعمال ذات قيمة فنية عالية، صُممت لتكون تماثيل تصلح لنصبها فى الميادين، وأنه حاول إقناع الرئيس مبارك بإقامتها فى ثلاثة من ميادين القاهرة، ولكنه كان يتعلل فى كل مرة يفاتحه فيها فى الموضوع، بأن الوقت غير مناسب.. وحاولت أن أعرف مكان حفظ هذه التماثيل، أو أحصل على صورة لها، أو على الأقل أن يأذن لى بنشر الخبر.. فرفض فاروق حسنى!
والسؤال الآن: أين توجد هذه التماثيل الآن، وهل هى فى أحد مخازن وزارتى الثقافة والآثار أم فى مكان آخر؟.. وما الذى يحول بيننا وبين أن نقيم من بينها - فى أحد ميادين القاهرة - تمثال «عبدالناصر»؟
فهل لدى أحد ممن يعنيهم الأمر إجابة؟